لم ينتظر الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف الموافقة الإسرائيلية كي يقوم بجولته في الشرق الأوسط، وأقدم رئيس الاتحاد الروسي على الخطوة المنتظرة، متجاوزاً المحطة الإسرائيلية وحط قبل أيام قليلة في رحاب مدينة أريحا للقاء نظيره الفلسطيني الرئيس أبو مازن، وهكذا فتح الرئيس الروسي، أول استثناء مهم، بضرورة أن يمر الزائر المسؤول إلى المنطقة، خاصة مناطق السلطة الفلسطينية عبر تل أبيب ومنها، وكان يمكن لهذا الاستثناء ـ السابقة، أن يشكل العنصر الأكثر أهمية في هذه الزيارة، غير أن مضمونها جاء ليشكل معياراً أكثر أهمية.فالاستقبال الرسمي والشعبي الذي حول مدينة أريحا، أقدم مدن التاريخ البشري، إلى أجواء ترحيبية تجاوزت الأشكال التقليدية من الترحيب، يعود إلى أن روسيا استبقت زيارة رئيسها إلى فلسطين، بتأكيد اعترافها المتجدد بالدولة الفلسطينية المستقلة على كامل التراب الفلسطيني المحتل عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، هذا الاعتراف من خارج مجموعة دول عدم الانحياز، خصوصاً في أميركا اللاتينية من شأنه أن يعزز التوجه الدولي نحو مزيد من الاعترافات.ولا شك أن إخراج عملية التسوية الفلسطينية ـ الإسرائيلية من المأزق الراهن، شكل عصب المباحثات بين الرئيسين، ويأتي تأكيد الرئيس الروسي في هذه المباحثات من أن تجميد النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية بما فيها القدس، يعكس الموقف الروسي التقليدي والثابت حول ضرورة نزع الأسباب التي تعيق استئناف العملية التفاوضية، وذلك بقيام إسرائيل باستمرار برنامجها الاستيطاني الذي أدى كما بات معروفاً إلى تأزم هذه العملية وربما يؤدي إلى انهيارها بالكامل.إن بحث الرئيسين عقد مؤتمر خاص بالشرق الأوسط في موسكو، وهو مبادرة روسية سبق أن رفضتها كل من إسرائيل والولايات المتحدة، يشير إلى أن روسيا لا تزال ترى أن هناك إمكانية لعقد هذا المؤتمر، الذي تعتبره السلطة الوطنية الفلسطينية شكلاً من تحمل المجتمع الدولي وأركانه الأساسية لمسؤوليته تجاه قضية الشعب الفلسطيني، ويحول دون تفرد الولايات المتحدة، العاجزة حتى الآن عن الضغط على إسرائيل، في إحياء وإنضاج الظروف المناسبة لإطلاق عملية تفاوضية جادة وفاعلة تؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، كما أن عقد مثل هذا المؤتمر، هو أحد الخيارات لمواجهة استمرار العملية الاستيطانية الإسرائيلية والعجز الأميركي عن التاثير.إلا أن احتمالات عقد هذا المؤتمر، تبقى محدودة نظراً للرفض الإسرائيلي ـ الأميركي، ومن شأن تأييد موسكو لمشروع القرار العربي المقدم إلى مجلس الأمن بشأن الاستيطان الإسرائيلي، أن يضيف سبباً آخر لهذا الرفض، ولعلّ تأخير إسرائيل منح السلطة الوطنية الفلسطينية التصريح بنقل العربات الروسية المدرّعة الموجودة حالياً في الأردن إلى مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، إشارة واضحة إلى أن إسرائيل لن تقبل بعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط برعاية الاتحاد الروسي.ومن المعروف أن موسكو أشارت قبل أيام قليلة من وصول الرئيس الروسي إلى أريحا إلى أنها تجري اتصالات مع حركة "حماس" بغية إنهاء حالة الانقسام في الساحة الفلسطينية، الأمر الذي وجد ترحيباً من الرئيس أبو مازن الذي أعرب عن أمله في أن تنجح المساعي الروسية المحمودة في وضع حد لهذا الانقسام، مما يفسح المجال لتشكيل حكومة وحدة وطنية تعمل على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وإذ اننا لم نسمع ما يشير إلى تقدم إزاء هذه الاتصالات، فعلى الأرجح أن الطرفين، موسكو وحركة "حماس"، بصدد العمل بسرية وبعيداً عن وسائل الإعلام، أو أن مثل هذه الاتصالات قد وصلت إلى طريق مسدود، من دون الإعلان عن هذا الفشل.وقد تجاوزت زيارة الرئيس الروسي لفلسطين، المجال السياسي إلى المجالات الثقافية والإعلامية والاقتصادية، بالتوقيع على عدة اتفاقيات كان أبرزها تلك المتعلقة بالتبادل الإعلامي مع وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا" ما يشير إلى أن العلاقة بين الجانبين باتت، بين دولتين مستقلتين، وترجمة عملية للموقف الروسي الداعم لقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.إسرائيل التي راقبت عن كثب أعمال القمة الفلسطينية ـ الروسية، سارعت عبر مسؤول في خارجيتها ـ حسب صحيفة "هآرتس" إلى الإعراب عن قلقها البالغ من اعتراف روسيا بالدولة الفلسطينية المستقلة، مشيرة إلى أن الأوساط الرسمية عبرت عن قلقها وصدمتها، خشية أن يفتح هذا الاعتراف الباب أمام اعترافات إضافية، خاصة في اطار اللجنة الرباعية، إذ إن دولاً أوروبية أعلنت أنها تدرس مثل هذا الأمر.ومع أن هذه القمة قد دشنت تطوراً مهماً في العلاقات الفلسطينية ـ الروسية، إلا أن مزيداً من التطور بات رهناً على موقف عربي قادر على استثماره لصالح مزيد من العلاقات السياسية والاقتصادية مع الاتحاد الروسي، ومن الطبيعي أن المصالح تلعب دوراً أساسياً في كافة أشكال العلاقات بين الدول، إن الانفتاح المتزايد من قبل المنظومة العربية على زيادة التبادل التجاري مع موسكو، من شأنه أن لا يجعلها رهناً بعلاقات قوية مع إسرائيل، خاصة أن هذه الأخيرة، لا تزال ممسكة بأوراق قوية للضغط على موسكو، خاصة في المسألة الجورجية، مما يجعل العاصمة الروسية، تخضع لابتزاز الحكومة الإسرائيلية ويمنعها من التقدم بجدية أكثر للعب دور مؤثر في كافة القضايا، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالشرق الأوسط.وبانتظار اجتماع اللجنة الرباعية الخاصة بالشرق الأوسط، في الخامس من الشهر القادم، فإن عملاً وجهداً متواصلين من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية يعتبر أمراً ضرورياً، قبيل انعقاد مجلس الأمن لبحث مشروع القرار العربي الخاص بإدانة الاستيطان الإسرائيلي، وتعتقد أن الاتحاد الروسي، سيلعب في هذا الاجتماع دوراً مؤثراً أكثر من أي وقت مضى، نتيجة لعجز الجهد الأميركي في إرغام إسرائيل على الاستجابة للإجماع الدولي بوقف أو تجميد الاستيطان، وربما يلعب الاتحاد الروسي دوراً أكبر في تعزيز تحالفاته مع الأطراف الأخرى للجنة الرباعية، بهدف التوصل إلى قرارات من شأنها إقناع واشنطن بالتراجع عن موقفها الداعي لاستخدام حق النقض ضد مشروع قرار إدانة الاستيطان. وكان من الواضح أن تأجيل بحث مشروع القرار في مجلس الأمن، كان يهدف إلى إمكانية حث واشنطن في اجتماع الرباعية على التراجع عن موقفها. www.hanihabib.net - hanihabib272@hotmail.com هاني حبيب