خبر : شعارات أكثر وقلق أقل..!! .. حسن خضر

الثلاثاء 16 فبراير 2010 04:43 م / بتوقيت القدس +2GMT
شعارات أكثر وقلق أقل..!!  .. حسن خضر



يقول الخبر إن مجهولين أقدموا على تفجير النصب التذكاري لأبي علي مصطفى في جباليا قبل يومين، وفي الخبر نفسه أن الـمجهولين لطخوا النصب بدهان أسود قبل هذا التاريخ بعشرة أيام. وأخيراً، يقول الخبر إن النصب يحمل صورتين الأولى لـمصطفى والثانية لجورج حبش. معنى هذا الكلام أن "الـمجهولين" فكّروا وتدبروا، وحاولوا الـمرّة تلو الأخرى. وهذا ما يسمى في لغة القانون "مع سبق الإصرار والترصّد"، مع ملاحظة أن الطلاء الأسود يستهدف حجب الـملامح، بينما الـمتفجرات تلغيها مرّة واحدة ونهائية. في الحالتين، والقاسم الـمشترك بينهما العنف، ثمة ما يشبه النص الغائب: محاولة للـمحو والكتابة، محو النصب التذكاري وتحويله وقد أصبح بلاغاً إلى الناس، إلى كتابة جديدة. ما الذي يخيف هؤلاء، ولـماذا يكرهون الحجارة والصور إلى هذا الحد؟ وما هي الدلالات الاجتماعية والثقافية والسياسية لعمل كهذا؟ ربما يقول البعض هذا عمل مراهقين في مكان يسكنه الفقر والجوع واليأس. لكن الأشياء الكبيرة والخطيرة تبدأ، أيضاً، بأشخاص كهؤلاء، ثم لا يعرف أحد كيف ومتى تتوقف. اللافت للانتباه أن الخبر يصف الفاعلين بالـمجهولين. فهل هم مجهولون فعلاً؟ ربما كان الأمر كذلك إذا كنّا نتكلّم عن أسماء، وعن أشخاص يمكن تحديد هوياتهم، لكن الأمر ليس كذلك إذا كان الكلام عن الـميول الأيديولوجية للفاعلين. فهم على الأرجح أصحاب أفكار تحرّم النصب التذكارية والصور الشخصية، حتى وإن كانت لأشخاص مثل جورج حبش وأبو علي مصطفى اعتنقوا أفكاراً متشددة، ودافعوا عن شعارات تدعو إلى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. فلسطين، إذاً، خارج الـموضوع. ولكن ربما كانت الـميول الأيديولوجية لحبش وأبو علي مصطفى، وكلاهما تبنى ودافع عن أيديولوجيا يسارية علـمانية في حياته، أحد أسباب تفجير النصب التذكاري. وهذا السبب لا يتناقض مع سببين سابقين هما تحريم النصب التذكارية والصور، بل يُضاف إليهما. مع أسباب كهذه تصبح لائحة الاتهام جاهزة، ويصبح كلاهما نموذجاً مثالياً لكل ما لا ينبغي أن يكون. لـم تغفر لحبش حقيقة أنه أحد الرموز التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية، والحركة القومية في العالـم العربي على امتداد عقود كثيرة، ولـم تغفر لـمصطفى حقيقة أنه قضى شهيداً على يد الإسرائيليين بعد حياة عاشها كمناضل محترف. هذه، أيضا، أشياء خارج الـموضوع، فالكلام لا يدور عن مجهولين يمكن الاختلاف أو الاتفاق معهم في الشأن السياسي. السياسة نفسها خارج الـموضوع. ولا وجود في قاموسهم لـمفردات مثل النضال، أو الحركة الوطنية والقومية. فهذه وغيرها تمثل كل ما لا ينبغي أن يكون. وطالـما أن السياسة خارج الـموضوع، فإن لغة السياسة وأدواتها ومفاهيمها لن تتمكن من تفسير أو تعريف لـماذا يقدم أشخاص على أمر كهذا. والواقع أن عملاً كهذا ينتمي إلى ما قبل السياسة بالـمعنى الـمجرّد للكلـمة. وما قبل السياسة في الحالة الفلسطينية يعني إخراج فلسطين نفسها من الـموضوع، وشن الحرب على الـمجتمع الفلسطيني نفسه، والثقافة، دائماً، هي الـميدان الطبيعي للحرب. وفي هذا الصدد ثمة أسئلة يصعب التغاضي عنها: هل توجد لدى الـمجتمع الفلسطيني في اللحظة الراهنة مناعة حقيقية تمكنه من مقاومة أيديولوجيات التحريم والتكفير، التي تبدأ بالنصب التذكارية والرموز الوطنية، وتنتهي بالحرب على الـمجتمع؟ بمعنى آخر: هل يدرك الفلسطينيون حقيقة ما ينتظرهم، وهل يملكون ما يكفي من الإرادة لـمجابهة أيديولوجيات التحريم والتكفير، وهل في مخيالهم السياسي والثقافي ما يمكنهم من بلورة آليات تضمن الدفاع عن الهوية والـمجتمع؟ اعترف بأنني لا أملك إجابة واضحة، ولا أشعر بقدر كبير من التفاؤل. والسبب أن فلسطين تقع في نقطة القلب بين تقاطعات إقليمية ودولية كثيرة ومعقدة لا تضمر خيراً، بالضرورة، للفلسطينيين، كما أن الـمجتمع الفلسطيني نفسه أصبح على درجة واضحة من الوهن، إلى حد أن الوطنية الفلسطينية لـم تعد محط إجماع وأصبحت عرضة للتهديد والانتهاك. ولعل أبرز دليل على ذلك أن ما يجري من سجال في الحقلين الثقافي والسياسي في فلسطين ينحصر في اليومي والعابر، والهامشي، والـمبتذل، وفي نـزعة محلية ضيّقة، كأن ما يجري في مناطق أخرى من العالـم لا يعني أحداً إلا بوصفه مناسبة لقضاء الوقت أمام التلفزيون. حتى السجالات التي تدور حول فلسطين في مؤسسات أكاديمية مرموقة، والكتب التي تتكلـم عنهم، والـمقالات التي تناقش مصيرهم، تكاد تكون غير معروفة. كل ما في الأمر أن الصحف اليومية تنشر ترجمات لـمقالات من الصحف الإسرائيلية، فتصبح هذه موضوعاً للنقاش وكأنها خلاصة ما يجري في الكون. يحدث هذا وغيره وسط انفجار مروّع لورشات العمل، والـمؤتمرات والندوات، والزيادة الـمذهلة في أعداد الـمنظمات غير الحكومية، التي تتبنى، للحصول على دعم من الخارج، شعارات عن الحرية والديمقراطية والـمساواة والنساء والأطفال والـمواطنة والـمجتمع الـمدني. ولا أعتقد أن أحداً من هؤلاء سيتظاهر في الشارع احتجاجاً على تدمير نصب في جباليا. كأن الـمعاني التي ينطوي عليها تدمير النصب لا تعني شن الحرب على الـمجتمع، ولا يمثل القائمون عليها تهديداً للحرية والديمقراطية والـمساواة والنساء والأطفال والـمواطنة والـمجتمع الـمدني. لـم يكن الأمر، دائماً، على هذا القدر من السوء والانفصام. كلام كثير، وشعارات أكثر، وقلق أقل.