ثمة تساؤل كبيرعلى الساحة الفلسطينية , كما العربية . عن أسباب هذا الحضور التركي الطاغى والمميز , والغياب العربي المدوي , عن ملفات وقضايا مهمة ونوعية وتمس جوهرياً بالمصالح العربية , الحيوية والعليا. الامران مترابطان , و ثمة علاقة جدلية بينهما , الغياب العربي , والحضور التركي , يمكن تفسيرهما بعاملين متعلقين بالعرب وتركيا معا , أحدهما خارجى , فيما الاخر داخلى.العامل الاول يتعلق بطريقة تعاطي الولايات المتحدة مع المنطقة بشكل عام , ومع التوجهات السياسية التركية والعربية بشكل خاص. لفهم و استيعاب ذلك , لا باس من عرض الواقعة التالية, "عندما أراد هنري كيسنجر زيارة المنطقة في النصف الاول من سبعينيات القرن الماضى , طلب من قسم التخطيط السياسى في وزارة الخارجية , تقريرا او رؤية تساعده , على فهم المنطقة ومشكلاتها وكيفية مقاربتها " انذاك - كتب الباحث الشاب ريتشارد هاس(تولى رئاسة القسم فيما بعد) تقريرا من صفحتين بعنوان "الخيمة والسوق" داعيا رئيسه للعمل وفق محتواها. قال هاس: "ان ثمة خيمة كبيرة داخل كل دولة عربية , يتربع الزعيم فى صدرها" . و اوصى هاس على ضرورة عدم الالتفات والاهتمام بالصخب او الاصوات العالية فى جوانب الخيمة , فالزعيم وحده يملك القرار ويجب العمل معه مباشرة , ولابأس من المبالغة فى الإطراء والمديح , للحصول على المبتغى.التعاطي مع صاحب القرار الاوحد ومصدر السلطة , بل كل السلطات في الحقيقة , يجب أن يكون –حسب ورقة هاس-بذهنية السوق , تضخيم قدرات الزعيم الشخصية , مقابل تبخيس البضاعة المعروضة , والتقليل من قيمتها وعرض اقل ثمن ممكن بعد التاكد ان هذا هو السقف الذى لا يمكن ان يقبل الزعيم باقل منه . بعد حرب تشرين اول اكتوبر 1973 وفي جولاته المكوكية للمنطقة استخدم كيسنجر بدقة مذهلة نظرية الخيمة والسوق . نجح الامر مع الرئيس انور السادات على الجبهة المصرية نتيجة عوامل عدة تتعلق اساسا ,بشخصيته وطريقة تفكيره . وفشلت على الجبهة السورية لأن الرئيس حافظ الاسد , امتلك شخصية مختلفة ورؤية مناقضة لرؤية السادات.منذ ذلك الحين , ما فتئت الولايات المتحدة , تتعاطى مع المنطقة , وفق نفس نظرية "الخيمة والسوق"، تتصرف على اساس ان ثمة شخص واحد لا احد سواه يمتلك القرار. الحكم او القرار المؤسساتى المنظم . فان ممارسة مزيج من الضغوط والغراءات وانواع الابتزاز كفيل بالموافقة , او على الاقل عدم ممانعة أو معارضة السياسات الأمريكية فى المنطقة , ودائما وفق نفس المنطق , دفع اقل ثمن ممكن , فى اغلى بضاعة , طالما ان الامر منوط بارضاء , او خداع رجل واحد , لا يستطيع اى كان معارضته , او منعه من تتنفيذ ما يراه مناسبا له وللوطن .لا تستطيع الولايات المتحدة استخدام هذا الأمر مع تركيا , حيث الحكومة منتخبة و حيث القرار ليس اسيرا لشخص واحد , يمكن ابتزازه او الضغط عليه , وحيث المحاسبة قائمة , سواء داخل البرلمان او حتى عبر الانتخابات النزيهة , التى تجرى بانتظام , و يفصح فيها الشعب عن رايه فى اداء الحكومة سلبا او ايجابا , وبالتالى لا فرصة او امكانية لتطبيق نظرية الخيمة والسوق لثنائى هاس –كيسنجر . وهذا ما يفسر رفض تركيا المشاركة فى حماقة بل كارثة , غزو العراق وعجز الولايات المتحدة عن الضغط عليها او ابتزازها . وفى المقابل شاركت دول عربية كثيرة مباشرة , او غير مباشرة , فى تسهيل الغزو رغم يقينها بانه يمثل كارثة على مصالحها , كما على المنطقة بشكل عام. من هنا, يمكن الانطلاق مباشرة الى العامل الداخلى الكامن خلف الغياب , بل الغيبوبة العربية الحضور التركى الطاغى والمستحب . عند العرب ثمة حكوما تستمد شرعيتها من دعم القوى كما الكبرى , كما من التها البوليسية القمعية والمصالح الحقيقية , هى مصالح النظام او الطبقات , والاسر الحاكمة حتى فى النظم الجمه ورية , اما فى تركيا , فثمة حكومة تستمد شرعيتها من الشعب مباشرة , وتعتقد انها ملزمة بالتعبير عن اماله وطموحه , وارائه السياسية والاقتصالدية والاجتماعية . والا جاءت لحظة المحاسبة العسيرة , فى امتحان صناديق الاقتراع الملزم والحئ وفق هذا المنطق من الصعب تصور الخلاص العربى , بعيدا عن التغيير السلمى والديموقراطى رغم انسداد الافاق بمستوياتها وابعادها المختلفة, الا ان لا فرق جوهرى بين رفض الاحتلال و الهيمنة الخارجية والتصدى للاستبداد والجمود الداخلى . الامران متلازمان ومترابطان عضويا والحل او المخرج هو باعطاء القرار للشعب او بالاحرى للشعوب العربية والقبول بحكمها والثقة المطلقة بمزاجها السياسى والوطنى , وبالتالى الاستعداد الجيد والدائم لامتحان صناديق الاقتراع , ليس وفق طريقة التسعة وتسعين بالمائة – (تم تحديثها لتتماشى مع العصر باتت تسعين او حتى ثمانين بالمائة) بل بانتخابات حرة ونزيهة وفق دستور توافق عليه الاغلبية المطلقة وعلى قاعدة الرضوخ التام لارادة الشعب , والسعى الجاد لتكريسها فى افاقها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية , ما يتيح حتما حضورا عربيا افضل واقوى , لايترك الساحة للاخرين .وفى نفس الوقت, يرسل نظرية الخيمة والسوق الى المتحف , ويجعلها شيئا من الماضى ليس الا.