لم أجد في طول وعرض الوطن أشد ترهلا وفوضى وانحدارا أكثر من نقابة الصحفيين. المعضلات التي تواجهها النقابة مزمنة ولا تحتاج إلى كثير شرح وتبيان، ويبدو أنها تكرست واشتدت رسوخا بفعل ضعف وعقم آليات المعالجة التي تصدت لها طيلة الحقبة الماضية إثر انتهاء الشرعية القانونية لمجلس النقابة، واستنكاف المتنفذين فيه عن المبادرة بأية خطوة إصلاحية تتيح لمّ الشمل الصحفي على أسس مهنية بحتة بعيدا عن الجواذب الشخصية الساقطة والنوازع الفئوية الرخيصة. في سياقات ملامسة الأزمة والتفاعل معها لا يكفي طرح تشخيصات وتوصيفات سليمة، ومن ثم استيفاء معالجات تقليدية أثبتت عقمها وعدم نجاعتها طيلة المرحلة الماضية. واقع النقابة الراهن يحفل بكل أشكال الخلل، ويمتلئ بالثقوب التي تحجزه عن الإقلاع بالجسم الصحفي حتى لو أُجريت ألف انتخابات وانتخابات، ما دامت الأسس والمنطلقات ومعادلة الفعل والأداء التي تحكم النقابة باقية كما هي دون تغيير. ابتداء، لم تكن التكتلات الصحفية المختلفة على مستوى المسؤولية من حيث القدرة البائنة على التواصل التام والتلاحم الكامل مع هموم وتطلعات القطاع الصحفي العريض الذي يشتمل على الكثيرين الذين مارسوا المهنة دون الحصول على العضوية. لم يكن الوسط الصحفي بحاجة إلى أنشطة وفعاليات تقليدية، على أهميتها وحيويتها، قدر حاجته إلى احتضان آمال الصحفيين ورعاية كفاحهم المشروع وسط طريق شائكة تعجّ بالعوائق والمنغصات. لا ريب أن تلك المهام تقع في صميم واجبات النقابة، لكن الهيكل الخرب للنقابة وانقطاع الأمل والرجاء في إمكانية إحيائها على مدار الأعوام الماضية، ألقى بأعباء جسام وتحديات ثقال على التكتلات الصحفية التي تشكلت أساسا لتعويض قصور وارتكاس النقابة عن أداء مهامها الطبيعية وواجباتها الأساسية. لست في معرض جلد أحد، غير أن تفحصا موضوعيا لمعالجات الكتل والتجمعات الإعلامية المختلفة لتداعيات الانتخابات الأخيرة "المهزلة" في النقابة يؤشر إلى اجترار ذات الآليات القديمة، بما يؤول بالوسط الصحفي إلى الضياع المحقق. ينبغي أن يدرك الجميع أن مسيرة الآلام والآمال التي خاضتها الكتل الصحفية طيلة العهد الفائت في محاولاتها لإصلاح واقع النقابة قد أفضت إلى غير نتيجة، وأن موجبات الحكمة والمنطق تقتضي منها البحث عن آليات أخرى، أكثر عمقا ونجاعة ومسؤولية. ما يواجهه الوسط الصحفي اليوم لا يتعلق بمجموعة من الأدوات الصحفية التي اختطفت النقابة وجعلت منها مستودعا شخصيا وفئويا فحسب، بل يتعلق بمافيات صحفية تحتضنها مافيات سياسية وتوفر لها سبل الدعم والاستمرار. تأسيسا على ذلك، يفترض أن تنأى كافة الحلول والمقاربات الراهنة ذات العلاقة عن الطابع التقليدي الباهت، وأن تتخذ خطوات حاسمة وصريحة عبر تشكيل نقابة جديدة تشكل –بحق- الملاذ الآمن والحقيقي، والمعبّر الأصيل عن طموح وإرادة وآمال كافة الصحفيين. دون ذلك، ستبقى الجهود المخلصة تراوح مكانها، وسيبقى الوسط الصحفي يكابد مزيدا من العلل والأدواء بعيدا عن أي إصلاح مرتجى أو نهضة حقيقية. من الخطأ الالتفات كثيرا إلى انتهازية اليسار، أو التركيز على الأسماء التي خاضت الانتخابات وخذلت جموع الصحفيين في القطاع، فالأمر يبدو أكبر وأعقد من ذلك بكثير، ولا يمكن مواجهته إلا بجملة إجراءات رصينة وتفاعلات جريئة تُنهي أزمة الاختطاف المزمنة لنقابة مهترئة، وتبعث الروح من جديد في جسم نقابي جديد دون أي بلايا أو ملوثات شخصية أو فئوية أو سياسية. تجربة الزمن الغابر أثبتت أن الشخصانية والفئوية شكلت وبالا على واقع النقابة، وأوردتها موارد التهلكة والخسران. لا حلّ إلا في نقابة جديدة تتحرر من هذه العقد المستحكمة، وتجاهد كي تتبوأ موقعا أصيلا لها تحت شمس الأمل والنور والحرية.