حين يفقد البحارة بوصلة الاتجاه في عمق البحر فان ذلك يعني الضياع وفقدان السيطرة والغرق.وحين يفقد القائد القدرة في السيطرة على أتباعه وعناصره في المعركة فان الهزيمة والوقوع في فخ الأعداء ستصبح حتمية وأكيدة. وحين نقول إن قوة أية مؤسسة هي من قوة قيادتها وضعفها من ضعف قيادتها أيضا،فهذه هي الحقيقة تماما،فالمؤسسة أو المنظمة أو الحركة هي قلعة لا تقتحم إلا من الداخل،فبقدر ما تكون قوية ومتينة ومسيجة من داخلها ،بقدر ما تكون عصية على الأعداء والخصوم والمناوئين،وهنا مكامن الحسم للمعارك مع كل الأعداء والخصوم في ظروف العمل السياسي والاقتصادي والعسكري وحتى الاجتماعي،أو أية مجالات فعلية أخرى تفرزها الحياة... وهذا ما يدفعنا إلى القول إن ما حصل وما نتج وما أفرزته الأحداث الانتخابية للبلديات والمجالس البلدية والقروية في المدن الفلسطينية خلال كل الانتخابات السابقة- وبالذات الانتخابات الأخيرة- إنما يقع في هذا السياق الأنف الذكر،حيث أن جملة الانتكاسات والتراجعات والهزائم في الكثير من المواقع المدينية والقروية ،إنما هو نتاج لمقدمات وأحداث وقضايا كان من المفترض إدراكها ومعرفة حيثياتها حتى يتم تلاشي سلبياتها وإسقاطاتها غير المرغوب فيها..والمؤشرات والبراهين كثيرة ومتعددة في ذلك..ويمكن الإشارة إليها من خلال الاقتراب من بعض الظواهر والمحطات في الحياة الوطنية الفلسطينية.. لقد غاب عن عقلية العديد من القيادات الفلسطينية في العديد من مواقع العمل التنظيمي – هذا إذا كان هنالك عمل تنظيمي حقيقي – جملة التطورات والأحداث السياسية والتنظيمية والاجتماعية في الساحة الفلسطينية، خاصة على صعيدي القوى الوطنية من جهة ،والإسلامية من جهة أخرى.وغاب عن ذهنية القائمين على العمل ألفصائلي- المغلق على ذاته- أن الحياة تنتج يومياً الجديد والحديث من القضايا والأحداث، التي قد يجد العقل البشري صعوبة- أحيانا – في مواكبتها واستيعابها ، خاصة إذا كان الوضع استثنائياً كالذي يعيشه شعبنا ، لأن الزمن لا يقف عند حدود التفكير الأحادي الجانب ، أو عند الرغبات والأمنيات الذاتية.. إن الأخطر في الحياة، أن يتحجر المرء عند حدود وتخوم وفواصل لا يستطيع تخطيها أو الابتعاد عنها ، ومقاومة نتائجها ، فإذا كانت الساحة الفلسطينية قد أفرزت كل الأحداث الكبيرة والنتائج الضخمة والتطورات البارزة ، دون أن تصيب أو تلمس أو تصل إلى تلك القيادات فان ذلك يعني أن مصيبة كبرى في الطريق تقترب وقد تصيب مقتلا. لقد تحجر العديد من قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية في أماكنهم – عسكري مكانك سر- وبقي هؤلاء يراوحون مكانهم دون أن تصيب عقولهم وتفكيرهم ووعيهم أية نسائم تطورية جديدة، فصاروا ليسوا أكثر من جوقة تتغنى بالماضي وتردد عبارات لا تعرف كنهها أو مغازيها.. إن غياب التربية التنظيمية والسياسية والفكرية، وغياب الممارسات الديمقراطية داخل الأطر التنظيمية لسنوات طويلة قد افقد هذه القوى بوصلة الاتجاه ، مما أوقعها في دائرة الاستهداف والتخريب ومحاولات التدمير من الداخل ، وذلك عن طريق العناصر المدسوسة والمرتبطة بأجندات أخرى، والتي لم يكن عليها أية رقابة أو محاسبة أو ملاحقة،وهذا بدورة غيب وحدة الموقف والرؤيا ، مما خلق حالة ووضع من الترهل واللامبالاة وعدم المصداقية لدى الكثيرين من العناصر والمرتادين ، فكانت مزارا للجميع دون تنظيم الدخول لهذا المزار .. والمسألة الهامة الأخرى التي لابد من ذكرها والتركيز عليها هي حالات التشرذم والشللية والجيوب – الخبيثة – والتكتلات اللامبدئية ، التي اتسمت بها أعداد كبيرة من القيادات الفلسطينية – للأسف- فشراء الذمم والمحسوبية وتقاسم "الزلم " بين هذا وذاك وانشغال التنظيمات عن مهماتها وواجباتها ، تجاه شعبنا في حروب "داحس والغبرة" لنصرة هذا وهزيمة ذاك،إنما هو مرض خطير يجب استئصاله ومعالجته والوقوف بجدية حيال نتائجه... يقول احد القادة التاريخيين (إذا أردت أن تعرف أن شخصا ما يصلح لأن يكون قائدا أم لا ، فسلمه مالية التنظيم أو الحزب أو الحركة ...) ، ولقد كانت هذه القضية من المفاصل الأساسية في واقع الحركة الوطنية الفلسطينية ، حيث تحول عدد من قيادات هذه الحركة إلى البحث عن الاغتناء المادي الشخصي بشتى الطرق والوسائل الشرعية وغير الشرعية ، وبأساليب هي الأقرب إلى اللصوصية والسرقة والاعتداء على المال العام والحق العام، فصارت تلك القيادات عرضة للهجوم والتشهير وكشف الأوراق، وهذا ما افقد تلك القيادات مصداقيتها وشرعيتها وعدم قدرتها على إقناع الشارع الجماهيري بصلاحيتها للقيادة ، فحصلت بالتالي حالات الانفصال والانفصام بينها وبين حركة الجماهير ، ونسي القائمون على مواقع المسؤولية كل واجبات العمل الوطني، فصارت النرجسية التنظيمية والسياسية والأنانية وإسقاط الذات وتعبئة الجيوب هي المسيطرة،بحيث أصبحت هي المقياس لكل الأحداث والتطورات مما جعل تلك القيادات تنام ليلها الطويل خالية الفكر،دون أن يصل إلى عقليتها أي شعور بالخطر الذي قد يداهمها في مهاجعها ... ونحن لا ننكر إن هنالك خصوصيات لكل حالة أو وضع تنظيمي أو جغرافي ، مع انه من الملفت للانتباه إن كثيرا من هذه الخصوصيات باتت تتشابه وتتداخل وتتوحد في القسم الأكبر من مواقع الأفعال الخاصة بالعمل والنشاط التنظيمي في زمن الانتخابات . وليس شك في إن ما تعرضت له الحركة الوطنية عامة، وحركة فتــــح على وجه الخصوص في الانتخابات البلدية السابقة إنما هو هزيمة حقيقية ، لابد من الوقوف إمامها بجدية ووعي ومصداقية ، بعيدا عن ردات الفعل الميكانيكية التي لاتصل إلى عمق وجوهر الموضوع، وذلك حتى تكون هذه القوى قادرة على الخلوص لنتائج تخدم الحركة الوطنية، وتمهد لمستقبل أفضل، وتؤسس لمرحلة قادمة أهم بكثير من كل ما مرت به قضيتنا .... وفي هذا السياق لابد من القول إن الهزيمة تولد لدى الإفراد والجماعات أفكارا وتصورات وأراء ووجهات نظر غير موضوعية ،تفقد صاحبها تحديد الاتجاه وتصيبه بغباشية الرؤيا،ليصبح آنذاك غير قادر على التمييز بين الأمور والقضايا والمسائل ذات الشأن ، بل وفاقدا للتوازن وضائعا بين تجاذبات مختلفة ومتنوعة،وليست ذات صلة بالموضوع أو القضية إياها،... وهذا ما تجلى في مقاومة الكثير من القيادات لكل دعوة للتغيير والإبداع والبناء ، لأنها كانت تدرك أن ذلك سيؤدي إلى عزلها وكشف أوراقها أمام الشارع الشعبي ، هذا من جهة ومن جهة أخرى، ابتعاد القاعدة التنظيمية عن المساهمة في صنع القرار التنظيمي فيما يخص كل منطقة من مناطق الانتخابات ، وقد ظهر ذلك جليا في لجوء العديد من القواعد التنظيمية إلى بدائل أخرى أكثر خطورة، خاصة العائلية والحمائلية والعشائرية – بمفهومها الضيق – وهذا ما عكس نفسه في العديد من حالات التسيب والتشرذم والانقسام والانشغال بالتفاهات،إضافة إلى الإساءة المتعمدة للواقع الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية ، حيث كانت هذه الإساءات تنتقل بسرعة بين الناس والتي عرف الخصم كيف يستغلها لمصلحته ... إلى جانب اللجوء للكذب وعدم الأمانة في إعطاء المعلومات ونقلها ، عن طريق إعطاء صور مثالية عن القدرات والإمكانيات غير تلك التي في الواقع ، مما جعل ذوي القرار يقعون في تقديرات مغلوطة عند وضع البرامج واختيار المرشحين ... وهنا أرى لزاما علي الإشارة إلى حركة فتح باعتبارها الحركة أو التنظيم الأكبر حجما وفعلا وواقعا والأكثر تأثيرا في الحياة الوطنية الفلسطينية بكل أوجهها ، لأنه بات واضحا أن أية تطورات أو أحداث سلبية كانت أم ايجابية تحصل لدى حركة فتـــح، سيكون لها انعكاساتها على مجمل الواقع الفلسطيني بكل أبعاده وجوانبه المختلفة ، خاصة وأننا مقبلون على مرحلة هامة سيكون لها تأثيراتها على مستقبل الفعل الوطني برمته ، وهي الانتخابات البلدية التي ستجري في يوم 17تموز القادم،في ظل ظروف فلسطينية صعبة ومحرجة،خاصة حالة الانقسام الحاد بين جناحي الوطن ، حيث بات من الواضح إن حركة حماس في قطاع غزة لن تسمح بإجراء هذه الانتخابات في المدن والبلدات الفلسطينية في القطاع مما يترك الباب مفتوحا لإجرائها فقط في المحافظات الشمالية ( الضفة الغربية)، وهذا بدورة سيجعل الحلم الفلسطيني بالوحدة والعودة إلى الشرعية أمرا في غاية الصعوبة . وعلية فان من بديهيات العمل التنظيمي والسياسي الاستفادة من النتائج السابقة لكل مجريات الإحداث والأفعال المختلفة التي حصلت في الساحة الفلسطينية، خاصة تلك المتعلقة بالانتخابات البلدية الماضية، وبالذات حين خسرت حركة فتـــح خاصة والفصائل الفلسطينية الأخرى عامة، الكثير من مواقعها ومعاقلها أمام حركة حماس التي عرفت كيف تستفيد من مشاكل وتعقيدات الفصائل الوطنية الأخرى،وبالذات أوضاع حركة فتـــح التنظيمية والسياسية والجماهيرية، وهذا يجب أن يدفع بحركة فتــــح والآخرين إلى إدراك مكامن الخطر والوقوف على مسبباته قبل الوقوع في براثنه وبين أنيابه . إن وقفة جادة وأصيلة ومسئولة تنظيميا ووطنيا هي المقدمة الرئيسية نحو تحقيق الأهداف والبرامج التي ستؤدي بدورها إلى تحقيق النص ،لان الحركة تقوى ويصلب عودها حين تطهر نفسها بنفسها من كل العناصر والأخطاء التي تعيق البناء والتقدم ، والتي علقت بها أثناء المسيرة النضالية ، لان إقصاء ومحاسبة من تسببوا في الهزيمة السابقة ، إنما هي الخطوة الأولى الجادة والمطلوبة تنظيميا وجماهيريا ووطنيا، لان بقائهم سيعطي المبررات لغيرهم لتكرار ما حصل في السابق ، وهذه المسألة ليست وقفا على فتح بعينها وإنما هي قضية مطلوبة من كل فصائل العمل الوطني ، التي يجب أن تدرك أن خيار العمل الجمــــــاعي و الوحـــــــدوي والوطــــــني هو خيار جماهير شعبنا ، وبدون ذلك سيكون الباب مفتوحا لكل الاحتمالات التي ستصب حينها في قناة الخصوم والأعداء وغير الوطنيين . في الختام فأنني أتساءل كما يتساءل كل أبناء شعبنا ،هل سنكون على موعد مع مرحلة جديدة مختلفة نحو الأفضل ؟ وهل سنرى فصائلنا وتنظيماتنا قد خرجت من عنق الزجاجة نحو أفق وطني موحد ؟ وهل سنكون أمام حقيقة، تجسيد وحدة منظمة التحرير الفلسطينية ضمن قوائم انتخابية موحدة تأخذ بالحسبان وتضع في مقدمة اهتماماتها مصالح المواطن الفلسطيني ضمن معايير الكفــاءة والأمانــة والنظافــة والصــدق والتاريــخ الوطــني البعيد عن المصالح الشخصية الضيقة التي لا تضع المصلحة الوطنية في سلم أولوياتها ... إن حركة فتح وكل القوى الوطنية الفلسطينية مدعوة إلى اخذ زمام المبادرة والبدء بوضع الخطط والبرامج التي تستجيب لأهداف ومصالح جماهير شعبنا من اجل تقديم أفضل الخدمات لكل جوانب الحياة اليومية للمواطنين .وأهم هذه البرامج هو العمل على رفع مستوى الوعي والمعرفة لدى قطاعات واسعة من جماهير شعبنا ،خاصة إذا ما علمنا أن ممارسة الديمقراطية في الانتخاب هو وعي ومعرفة وثقافة إلى جانب العِلم.. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الانتخابات ستشكل مؤشراً هاماً على ما سيحمله المستقبل ، حين تتوجه جماهير شعبنا من اجل انتخابات تشريعية ورئاسية مستقبلاً ، حيث نتمنى أن لا يكون ذلك اليوم بعيداً..