حدث بالصدفة أن التقت مجموعة من الصحافيين المهنيين لمناقشة أوضاع نقابة الصحافيين المتدهورة كما اجتمعوا من قبل عشرات المرات وفي جلسات متعددة التوجهات. لكن ذلك اللقاء كان مختلفاً بسبب وجود بريقٍ من الأمل في تغييرٍ طال انتظاره حتى بات يشبه الحلم. التقت الأفكار أن التغيير مطلب جدي وضروري ولكن التغيير لا يختزل بتغيير الوجوه بل يجب أن يتوج بتغيير النهج. فانطلقنا معاً وعملنا معاً وانتصرنا بخسارتنا في انتخابات النقابة معاً لنتقاسم سويّة مذاق الافتخار بحماية مبدأ آمنا به... عسلٌ، عسل، يفرح القلب وينعش الروح حتى الثمالة. لم نكن كثيرين بالعدد ولا نملك سوى أصواتنا ورأينا وإصرارٌ مجنونٌ على تحدي واقع سلبيٍّ بإيجابيةٍ بدت لكثيرين مبالغةً فيها حتى اتُهمنا بالغرورِ أحياناً والغباء أحياناً أخرى. ولكنا بقينا مصرين على أن نقابةً لصناع الرأي في وطنٍ مسلوبٍ من كل شيء سوى الحرية يجب أن تكون مثالاً لتلك الحريةِ التي تأبى القيودَ حتى ولو لفها حريرٌ ملون بألوان الوطن المسلوب. ومع إدراكنا أن المؤتمر العام للنقابة لم يعدّ بالطريقة الصحيحة ولم يُستشر أصحاب الأمر، أي نحن الصحافيين، في أي تفصيل من تفاصيله اتفقنا أن واجبنا هو التفاعل مع الحدث لأن الأمر يخص بيتنا نحن الصحافيين لا غيرنا ولأن إقصائنا لأنفسنا من هذا المؤتمر الإشكالي تحت أي شعار سيكون استمراراً لسلبية لم ولن تنفعنا. ومع أن الوقت كان يدركنا قررنا بدء النقاش فوجدنا أننا نتناقش مع السياسيين في أمر الصحفيين ونقابتهم بدل أن يكون النقاش بين الزملاء بغض النظر عن آرائهم وتوجهاتهم السياسية والتي يفترض أن لا يكون لها تأثير على آرائهم المهنية ومطالبهم النقابية. فالجميع يجمع على أن النقابة بجاحة إلى إصلاح وإعادة ترميم لكن الجميع اختلف عندما اقترب الوقت على المؤتمر فتبدل النقاش وانحرف عن الجوهر ليُختزل موضوع النقابة بالحصص وهذا ما زادنا إصراراً على خوض هذه التجربة الفريدة. أطلقنا على أنفسنا "الصحافيون المهنيون المستقلون" وطالبنا الجميع أن يكون المؤتمر فرصة للتنافس بين المهنيين على من هو الأجدر في خدمة الهدف العام. طالبنا بحقنا في المشاركة وحاولنا جميعا أن نقنع زملائنا التخلي عن سلبية لم نرى أنها تخدم أهدافنا المشتركة. ناشدنا الجميع المشاركة وإقصاء التناحر السياسي من النقابة بدل أن يسمحوا لذلك التناحر أن يقصيهم وغيرهم. لم ننجح مع الجميع ولكنا استمرينا إيمانا بالفكرة وليس تجاهلاً لحقوق زملاء وزميلات فرقنا عنهم واقع الحصار الخارجي والانقسام الداخلي. لأننا لا نرى الوطن حصصا أو مناطق ونرى النقابة بيتا جامعا للمهنيين واجبنا أن نشارك في إعادة بنائه حتى يصبح قادراً على الاهتمام بهمومنا والدفاع عن حقوقنا. رفضنا أن نتحالف أو أن نقبل حصة من كعكة النقابة التي أضحت في نظر الكثيرين لذيذة حد الإغراء. أصرينا على أن تكون لنا حرية في إبداء الرأي والتنافس حتى وان كانت عملية الترشيح والتصويت ملتوية ويشوبها كثير من الشوائب. ومع أن التنافس كان شديدا حتى المرارة أحياناً وأن المعادلة كانت خالية من العدل إلى أننا استمتعنا في كسر قاعدة سطت على حياتنا السياسية والنقابية لعقود: قاعدة التنسيب والبصم على توليفات معدة وجاهزة توهم من توصل لها بنصر هو انتكاسة لكن مؤمن بالديمقراطية وضرورة وجود الإنسان المناسب في المكان المناسب.. وبعد حوالي أسبوع من النقاشات الحادة والمناورات النقابية التي لا خبرة لنا فيها، ذهبنا إلى انتخابات و"توحدت" الفصائل "لمواجهة" طرحنا فشكلت ما أسمته "قائمة الوحدة الوطنية". ما أثلج صدورنا أن نقاشاتنا و"مشاغباتنا" أنتجت قائمةً فيها الكثير من الزملاء والزميلات المهنيين ومنهم من يؤمن بالتغيير الإيجابي الذي ننادي به في النقابة – حتى أن بعضهم كانوا على قائمة مرشحينا نحن المشاغبين المصرين على الهزيمة المنتصرة. لكن طرح الأمور بهذه الطريقة المسيّسة وذهاب البعض إلى حد من السطحية الجارحة تصورنا وكأننا ضد الوحدة فاق احتمال البعض منا واستفز آخرين للانسحاب. ورغم تسجيل بعض المواقف بشكل علني زاد الوضع توترا إلا أننا أصرينا على خوض التجربة لنحمي حقنا وحق جميع الزملاء في إبداء الرأي والاختيار الحر. لم نكن ساذجين فنحن كنا نعلم أن العملية برمتها لم تكن كما يجب لكنا كنا فخورين بمن آزروا فكرتنا فقاوموا الاصطفاف المتعصب حد العمى أحياناً وبذلوا جهداً في كتابة 63 اسما على ورقة الاقتراع بدل أن يستسهلوا الانسياق لما هو أسهل: التصويت بثلاث كلمات لقائمة دونما أي اعتراض. انتصر ثلث من صوتوا للفكرة وهذا مدعاة للفرحة العارمة التي أحسسنا بها ونحن نراقب عملية فرز الأصوات مع زملائنا من القائمة الأخرى. بقينا حتى الفجر نعد أصواتنا للناخبين ونرى أمامنا التقييم الحقيقي للصحفيين الذين قاوموا فكرة العمى لتنتصر البصيرة لمن مهمتهم إضفاء الضوء على الحقيقة. ولقد كانت أغلبية الحضور قد "قررت" أو "أقرت" إلزام الناخب بالتصويت لكل أعضاء الهيئة الجديدة الثلاث وستون ما يعني أن الناخب تقرر له التصويت لمن يؤيد ومن يعارض في آن واحد – إلا إذا اختار التصويت المختصر لقائمة الحصص. هو نظام عبقري في دهاءه ولكنا استغليناه للتصويت للمهنيين المرشحين في القائمة الأخرى لأن هذا حقنا وواجبنا – فصوتنا أمانة سعدنا بإدلائه لمن رأينا أنه مرشح يستحق هذا الصوت الحر. أنا شخصياً فخورةٌ جداً بهذه التجربة وبكل الأصوات التي منحتني ثقتها ووقتها وإصرارها على إبداء الرأي وأعلم أن زملائي اللذين أرصوا على خوض هذه التجربة إلى آخرها يشاطروني الرأي والاعتزاز. كانت هزيمة مشبعة بالانتصار. لقد هنأنا زملائنا المهنيين في المجلس الجديد على فوزهم ووعدناهم أن نكون مساندين لهم في جهودهم لإعادة البناء ونحن صادقون. مهمتهم شاقة وتبدأ في لم شمل الصحفيين وإضفاء المصداقية على عمل النقابة بالبدء في الأهم: عضوية النقابة. واجبنا أن نعمل جميعا لضمان أن لا يزاحمنا في المؤتمر القادم من لا ينتمي لمهنة المشقات هذه التي اخترناها حتى نضمن صياغة نظام جديد يصون حقوقنا ويدرك اهتماماتنا المهنية. لم تكن مهزلة بل كانت مفخرة لكل مهنيّ شارك في المؤتمر ورأى ما رأينا من تحول وتحد لنظام ينافي الفكر الحر. ويا حبذا لو اعتمد السياسيون نتائج التصويت الفردي لقراءة واقع الحال ولإدراك أن المنافسة المفتوحة هي خير معيارٍ لتقديرِ من قدم أكثر ومن هو قادر على الخدمة أكثر. وكما احتججنا على تسييس النقابة، أعتقد أنه من المؤسف أن نشارك نحن الصحفيون في هذا التسييس. أن لنا كصحفيين أن نتحرر من قيود فرقت بيننا طويلا وحيدت جهودنا عن الهدف الأساس وهو حماية الكلمة الحرة في الوطن رغم كل الظروف. فمثل الوطن، النقابة ليس كعكة نتقاسمها بل مكسب يجب أن نستحقه بجدارتنا المهنية بعيداً عن انتماءات قد تكون لنا لكنها لا يجب أن تؤثر علينا كمهنيين لأن مكانها خارج بيتنا المشترك لا مزدحمة حد الاختناق داخله. - مرشح مستقل