خبر : حول أوشفيتس وأزمة التجمع/ بقلم: رجا زعاترة

السبت 30 يناير 2010 08:50 م / بتوقيت القدس +2GMT
حول أوشفيتس وأزمة التجمع/ بقلم: رجا زعاترة



• مشاركة الشيوعي الفلسطيني ابن صفورية محمد بركة تصبّ في مواجهة التسخير الصهيوني والإسرائيلي الرخيص للكارثة..• هل يعلم مفكّرو "سياج الهوية" أن عزمي بشارة كان يفاخر أمام ضباط إسرائيليين أنه أول مثقف عربي يهتم بالكارثة ويفهمها؟• واجب الشيوعيين هو التصدّي للفاشية والجرائم ضد الإنسانية في كل زمان ومكان، أيًا كان الضحية وأيًا كان الجاني.. في نيسان 2007، عشية إصدار "وثيقة حيفا" عن مركز "مدى الكرمل"، دار في أحد الاجتماعات سجالٌ حامي الوطيس، حول الموقف من الجرائم النازية بحق اليهود في أوروبا في الحرب العالمية الثانية. وعبّر عضو الكنيست السابق محمد ميعاري عن رأيه بإيجاز: "تا يعترفوا بالنكبة منعترف بالمحرقة".في نهاية المطاف جاء في الوثيقة: "نحن نعي تاريخ اليهود المأساوي في أوروبا، والذي بلغ ذروته في إحدى أفظع الجرائم الإنسانية، وهي المحرقة التي أحلّتها النازية باليهود، ونعي المآسي التي عاشها الناجون منها. نحن نتعاطف مع ضحايا المحرقة، مَن أُبيد ومَن نجا؛ إننا نرى أن تسخير الكارثة ونتائجها لشرعنة حق اليهود في إقامة دولتهم، على حساب الشعب الفلسطيني، يختزل قيمة العبر الكونية – الإنسانية والأخلاقية – من هذا الحدث الكارثي، والتي تخص البشرية جمعاء".وفي حوار أجراه معه كاتب هذه السطور، قال البروفيسور رمزي سليمان، أحد المبادرين إلى الوثيقة، إنّ "المجموعة نجحت في الارتقاء بموقفها إزاء هذه المسألة والتحدّث بصوت إنساني وواضح، ينظر إلى الكارثة على أنها إحدى أبشع الجرائم ضدّ الإنسانية في التاريخ الحديث. إن موقفنا في هذا الموضوع هو موقف أخلاقي وكوني وإنساني"، وأردف أنّ "مسؤولية الصهيونية عن النكبة والجرائم التي تُقترف يوميًا بحق شعبنا، والعنصريّة البغيضة تجاهنا، كل هذه لم تثننا عن اتخاذ موقف أخلاقي وإنساني بالنسبة للكارثة ومن التعاطف مع ضحاياها". (ملحق "الاتحاد"، 18 أيار 2007). *** اليوم، في خضم النقاش حول مشاركة عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي ورئيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة النائب محمد بركة، في إحياء الذكرى الـ65 لتحرير معسكر أوشفيتس النازي على يد الجيش الأحمر السوفييتي العظيم، يتضح أكثر فأكثر أنّ ذلك الرأي الوجيز ليس أو لم يعد اجتهادًا فرديًا وحسب لدى الأخوة في التجمع الوطني الديمقراطي. فمع أنّ الحملة الشرسة ضد بركة تجنّبت خوض نقاش مبدئي أو فكري، إلا أنّ ما يُعرَف بالنصّ الضمني (sub text) وحكمة "خذوا أسرارهم من صغارهم" كانا كفيلين بإماطة اللثام عن جوهر الهجوم، الذي التقى مع مواقف غلاة اليمين الفاشي، حتى أضحى الكهاني المأفون ميخائيل بن آري مصدرًا موثوقًا في موقع "عرب 48" (18 كانون الثاني الجاري)، ناهيك عن الخلط المتعمّد بين الوفد الحكومي برئاسة بنيامين نتنياهو، والوفد البرلماني الذي يشارك فيه محمد بركة ونواب من عدة كتل.ويتضح، أيضًا، أنّ هناك أرضية صلبة لادعاء الناشطة التجمعية عرين هوّاري، بأن هناك، داخل حزبها، "مجموعة قليلة جدًا إلا أنها موجودة، ترفض التعامل مع اليهود (....) قلة من هذه القلة تحمل أيضًا خطابًا عنصريًا تجاه اليهود" ("الصنارة نت"، 25 تشرين الثاني 2009). لكن يبدو أنّها أساءت تقدير حجم هذه الفئات، والتي شاركت حسب بعض شهود العيان في الصرخات الغوغائية تجاه المؤرّخ التقدمي إيلان بابي في مظاهرة عرّابة في أكتوبر الأخير.تعرف هوّاري كما يعرف كثيرون موقف عضو الكنيست السابق د. عزمي بشارة من موضوع المحرقة وجرائم النازية، ورفضه المفاضلة بينها وبين نكبة الشعب العربي الفلسطيني وجرائم الصهيونية ودولة إسرائيل، لا بل ومباهاته أمام أكاديميين وضباط إسرائيليين بأنه "أول مثقف عربي يهتم بالكارثة بجدية، ولا ينكرها، ويفهم أبعادها ومعانيها". (ملحق الكتب في صحيفة "هآرتس"، في مقالة عوديد شخطر "ما بعد صهيونيين وشاذون آخرون"، 22 أيار 2007). وقبلها بسنوات، حين سئل بشارة عن نية بعض الشخصيات العربية (من بينها الأب إميل شوفاني) زيارة معسكر "أوشفيتس"، قال للصحفي أفيف لافي: "بعض الأشخاص المتداخلون فيها (أي: في الزيارة – ر.ز) أصدقائي، وقد تشاوروا معي أيضًا. إذا ما كانت في هذا الاهتمام رغبةٌ حقيقية وصريحة لمعرفة الذاكرة التاريخية والجماعية للغالبية في الدولة التي نعيش فيها، أعتقد أن هذا جيّد. كل أمر كهذا مبارك" (ملحق "هآرتس" الأسبوعي، "كيف يُقال محرقة بالعربية"، 7 شباط 2003).وكما أشرنا في الماضي غير البعيد، فإنّ لغياب بشارة عن الوطن دورًا حاسمًا في اختلال خطاب حزبه السياسي وأسسه الفكرية. فمَن يقرأ ما يكتبه مفكّرو الدرجة الثالثة في "التجمع" اليوم (خاصة أولئك العالقون في مدرسة "سياج الهوية") لن يصدّق أنّ هذا الحزب هو ذاته المنبلج من "قلب الكينونة الإسرائيلية"، الذي كان يفاخر قبل بضع سنوات فقط بتشريعات دمج العرب في شركة الكهرباء وبنك إسرائيل وخلافه، وبمشروع "دولة المواطنين"، الاندماجي بامتياز؛ ونفس الحزب الذي أطنب، قبل سنة فقط، في تفسير الواجب الأخلاقي والشرعي للاعتراف بحق تقرير المصير لليهود في إسرائيل. *** نفهم محنة التجمع، إذ يعاني من أزمة وجودية لها جذور وتفرّعات فكرية وسياسية وتنظيمية عديدة، لم تبدأ بهواجس هوّاري ولن تنتهي بفصل النائب سعيد نفاع. ونفهم أنهم أدركوا أن السبيل الأنجع لرصّ الصفوف هو تحيّن أي فرصة للهجوم على الحزب الشيوعي والجبهة ورموزهما، وعلى الرفيق محمد بركة تحديدًا. هذه الإستراتيجية بائسة بحد ذاتها، لأنها تؤشر على إفلاس أصحابها وعجزهم عن التجمُّع على غير قاعدة العداء للجبهة، لكنها تزداد بؤسًا وعبثية حين توجَّه حرابُها إلى حزب وجبهة وقيادة سياسية قامتها النضالية شامخة من صفورية إلى الناصرة إلى تل أبيب إلى الشيخ جراح إلى بلعين إلى الخليل إلى كل بقعة من فلسطين التاريخية؛ وحين تتزامن، وليس من قبيل الصدفة، مع محاكمة سياسية غير مسبوقة، تحرج مبرّري الخيار الانهزامي.يمكّن تفهّم تحفّظ البعض من أنّ مشاركة بركة في هذه الذكرى الإنسانية تأتي ضمن وفد "إسرائيلي" ذي بعد تمثيلي ما، إذا كان هذا البعض من حركات ترفض الانخراط في البرلمان الإسرائيلي، كالحركة الإسلامية الشمالية وحركة أبناء البلد (الشمالية أيضًا)، ولا ترى نفسها جزءًا من الساحة السياسية في إسرائيل. أما الحزب الذي يرشح رئيسه لرئاسة حكومة دولة إسرائيل فلا يستطيع، أخلاقيًا على الأقل، أن يأخذ على الآخرين مشاركتهم في وفد برلماني، أو أن ينظّر عن مكاسب دعائية إسرائيلية مفترضة. هنا يجدُر التساؤل: إذا ما عُقد مؤتمرٌ لبرلمانيين من مختلف أنحاء العالم ضد انتشار السلاح النووي على سبيل المثال، فهل ستكون المشاركة فيه خارج "سياج الهوية"؟ وفي سياق مشابه: ماذا عن استقبال أنظمة عربية "ممانِعة" لأعضاء كنيست يحتمون بحصانتهم البرلمانية الإسرائيلية؟وفي هذا الموضوع تحديدًا - موضوع المحرقة التي أبيد فيها عشرات الملايين من البشر، بينهم ملايين اليهود - فإن مشاركة بركة، الشيوعي، الفلسطيني، اللاجئ ابن اللاجئ، تصبّ في مواجهة التسخير الصهيوني والإسرائيلي الرخيص لما حدث في الحرب العالمية الثانية لتبرير وتمرير الجرائم السابقة واللاحقة بحق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة. *** محمد بركة كان في أوشفيتس، لأنّ مهمة الشيوعيين هي التصدّي لكافة أشكال العنصرية والفاشية والجرائم ضد الإنسانية في كل زمان ومكان..محمد بركة كان في أوشفيتس، لكي يحذر من متاجرة حكّام إسرائيل بالكارثة لقرع طبول حرب كارثية ضد إيران..محمد بركة كان في أوشفيتس، لأنّ أكبر خدمة قد يسديها الفلسطيني لشعبه وقضيته ولإنسانيته هي أن "ينتمي لسؤال الضحية"..