منذ إقامتها على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني، تمكنت الدولة العبرية، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي أسست بقرارٍ صادرٍ عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من تسويق نفسها في العالم بأنّها الضحية، وبأنّ الجّلاد العربي يريد أن يمحوها عن وجه هذه البسيطة، هذا التكتيك تحوّل مع مرور الزمن إلى إستراتيجية ترتكز عليها الأجندة الصهيونية الإسرائيلية، وقُدّم الشعب العربي الفلسطيني كبش الفداء من أجل تحقيق الأهداف والأطماع الإسرائيلية داخل فلسطين التاريخية وخارجها. وعلى الرغم من أنّ إسرائيل تعتبر وبحقٍ دولة مارقة بامتياز، وعلى الرغــــم من أنّها لم تقم بتنفيذ أكثر من ستين قراراً صادراً عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، إلا أنّ حالة التعاطف الدولي الغربي غير المسبوقة مع هذه الدولة ’الضحية’ تعتبر سابقة في التاريخ، فكلما زادت إسرائيل من عدوانياتها وعنصريتها، كلما ازداد التأييد لها، الأمر الذي يقطع الشك باليقين بأنّها نجحت إلى حدٍ كبيرٍ في إقناع العالم الغربي بأنّ العرب يريدون أن يرموا اليهود في البحر.هذه الإستراتيجية تكرست في ظل حالة الذل والهوان التي تعيشها أنظمة العذاب أو التعذيب في الوطن العربي، هؤلاء العرب الذين يريدون القضاء على إسرائيل، هم نفس العرب، الذين عرضوا المبادرة العربية في قمة بيروت في آذار (مارس) من العام 2002، والتي تنص بالحرف الواحد على إبرام معاهدات السلام مع 57 دولة عربية وإسلامية مع دولة الاحتلال مقابل التطبيع الكامل، وهم نفس العرب الذين يتوسلون في الصباح، كما في المساء للتطبيع مع إسرائيل، وبالمناسبة يجب التذكير بأنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، ردّ على المبادرة العربية باجتياح الضفة الغربية وإعادة احتلالها وفرض الحصار الكامل على الرئيس الشهيد، ياسر عرفات، في مكتبه في المقاطعة بمدينة رام الله المحتلة، في حين قال وزير الحرب آنذاك، العمّالي بنيامين بن اليعزر لصحيفة (معاريف) العبرية إنّ المبادرة العربية هي أكبر إنجاز للحركة الصهيونية منذ تأسيسها. وبالمناسبة أيضاً، فإنّ المبادرة العربية رُفضت من الولايات المتحدة الأمريكية وحبيبتها ربيبتها، إسرائيل، ومن دول الاتحاد الأوروبي، وتحولّت مع مرّ السنين إلى مبادرة تدل على أنّ العالم لا يحترم العرب، ولا يأخذهم في حساباته قصيرة المدى كانت أم طويلة، وبقيت المبادرة موضوعة على الرف، في انتظار وجود مكانٍ ملائم لها في مزبلة التاريخ.ودارت الأيام، ومرّت الأيام، والمعذرة من كوكب الشرق الراحلة ولكنّها الحاضرة، السيدة أم كلثوم، ووصلنا إلى اللحظة الحاسمة والمرحلة الدقيقة في المفاوضات غير المباشرة بين الدولة اليهودية وبين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لإبرام صفقة الأسرى، والتي بموجبها سيتم إطلاق سراح أسرى فلسطينيين يقبعون في غياهب سجون الاحتلال، مقابل الجندي الإسرائيلي الأسير، غلعاد شليط، الذي تمكنت المقاومة الفلسطينية في عمليةٍ نوعيةٍ من احتجازه في الخامس والعشرين من شهر حزيران (يونيو) من العام 2006، وشليط لم يكن يتنزه على الحدود الإسرائيلية مع قطاع غزة، بل كان في مهمة عسكرية، كما أنّ شليط لم يتم أسره من بيته في مستوطنة (هيلا) التي أقيمت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي على أراضٍ تمّ سلبها بالقوة من أهالي قرية معليا العربية في الجليل الأعلى، ومع ذلك فإنّ الوقاحة الإسرائيلية، مثلها مثل العنصرية الإسرائيلية، اجتازت جميع الخطوط الحمراء والحدود غير المحددة، ودفعت بوزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، التي صدر ضدّها أمر اعتقال في بريطانيا بتهمة ارتكاب جرائم حرب إلى القول الأسبوع الفائت إنّ أكثر ما يقلقلها هو أنّ المجتمع الدولي يساوي بين الإرهابيين الفلسطينيين وبين جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، وهو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، على حد وصفها، ليفني، كسائر أقطاب الدولة العبرية، تجاهلت عن سبق الإصرار والترصد أن تقول للعالم إنّ الإرهاب الفلسطيني، كما تسميه، هو عمليات مقاومة شرعية لاحتلال غير شرعي، ليفني تناست أن تقول لكل من في رأسه عينان، أنّ دولتها أرسلت الوحدات الخاصة إلى العمق اللبناني وقامت باختطاف الشيخ عبد الكريم عبيد ومصطفى الديراني من بيتيهما في عملية إرهابية من الدرجة الأولى، ليفني لا تُفرّق بين دولة تمارس الإرهاب المنظم، وبين مقاومة تحاول في ظل عدم وجود تكافؤ في موازين القوى، الدفاع عن الشعب الذي يرزح تحت نير الاحتلال. ونحن نوافق مع ليفني، فالمساواة والمقارنة بين ’الإرهابيين’ الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين مجحفةٍ جداً: تقرير القاضي اليهودي الصهيوني غولدستون، أكد على أنّ إسرائيل، بقيادة ليفني وأولمرت وباراك، ارتكبت في العدوان الأخير على غزة جرائم حرب وجرائم ترتقي إلى جرائم ضدّ الإنسانية، قتلوا بدمٍ باردٍ نحو 1400 فلسطيني، نصفهم من الأطفال، واستعملوا قنابل الفسفور الأبيض، الأمريكية الصنع، والمحرمة دولياً، لإحراق الفلسطينيين العزل. وعندما ’يتجرأ’ العربي الفلسطيني، الذي يعيش في موطنه، فلسطين، وليس في دولته، إسرائيل، بكشف هذه الحقائق والإيمان المطلق بها فإنّ أذرع السلطة في ’واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط’، تسارع إلى ملاحقته قضائياً بتهمة التحريض على قتل جنود الاحتلال، كما حدث مع كاتب هذه السطور مؤخراًُ، ومن المفارقات العجيبة الغريبة أنّ رئيس جهاز الأمن العام الأسبق (الشاباك الإسرائيلي)، عامي أيلون، يتحدث في مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي (القناة الأولى) عن القيم والأخلاق ويجزم قائلاً إنّ الدول الغربية لا تفهم ماذا يعني محاربة الإرهاب، بل تفهم في أنظمة وقوانين الحرب العادية بين جيشين نظاميين، وهذا الرجل، المطلوب للعدالة الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب ضدّ الشعب الفلسطيني، هو نفس الشخص الذي تفاخر في مقابلة صحافية بأنّه قام بقتل عناصر من حركة حماس، أكثر مما قامت حركة حماس من قتل يهود وإسرائيليين، خلال فترة خدمته في الجيش والشاباك. وتنفيذ عمليات القتل لا يمكن التفريق بينها، فالعدالة لا تجزأ ولا تُقسم، إلا في هذا الزمن الرديء، الذي بات فيه الفلسطيني الذي تمارس ضدّه جميع أساليب القمع والإذلال والتنكيل، إرهابياً بمجرد أنّه قرر مقاومة احتلال الأخر لأرضه ولوطنه، وهذا الأمر يقودنا إلى الشروط الإسرائيلية لإبرام صفقة التبادل مع حماس، والتي تشترط في ما تشترط بإبعاد أسرى فلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة، وهم من المرشحين للتحرر بموجب الصفقة، إلى قطاع غزة أو إلى خارج فلسطين. أي أنّ الدولة العبرية تريد أن تقايض حركة حماس على ترحيل وتهجير الأسرى مقابل إطلاق سراحهم، كما حدث مع أسرى كنيسة المهد، الذين شُردوا من مدينة بيت لحم المحتلة، على أمل العودة إلى فلسطين، وما زالوا ضيوفاً على دولٍ أوروبية، لأنّ إسرائيل، كعادتها، تنكرت للاتفاقيات الموقعّة مع السلطة الفلسطينية، وبالتالي فإنّ موافقة حماس على هذا الشرط يمكن اعتباره رضوخاً للابتزاز الإسرائيلي، وسابقة كنيسة المهد يجب أن تضيء جميع الحدود الأخلاقية والوطنية بالأحمر لدى قادة حركة حماس، الذين سيتخذون القرار الصعب، فهؤلاء الأسرى، في حال تمّ إبعادهم سيحولون من أسرى في سجون الاحتلال، إلى لاجئين في الدول العربية والأوروبية التي ستوافق على استقبالهم، هؤلاء الأسرى لا يحملون جواز السفر، ولا الهوية، هويتهم المقاومة وجواز سفرهم فلسطين، وليس فلسطينياً، وعليه سيكونون رهائن في الدول التي سيتم إبعادهم إليها في حال موافقة حماس على شرط إسرائيل التعجيزي.والشيء بالشيء يذكر: الجندي الإسرائيلي الأسير شليط يحمل جواز سفر إسرائيليا وجواز سفر فرنسيا، تخيّلوا لو أنّ حركة حماس وضعت شرطاً للوسيط الألماني بأنّها تطالب مقابل إبعاد عددٍ من أسراها إلى القطاع أو إلى خارج حدود فلسطين التاريخية، بأن يتم إبعاد الجندي الإسرائيلي- الفرنسي، شليط إلى فرنسا، وهي على ما يبدو الدولة التي استجلب وعائلته منها، تخيّلوا لو أنّ هذا الطلب طُرح على طاولة المفاوضات، ماذا كان سيجري وماذا كان سيرد المجتمع الدولي المنافق على هذا الطلب، وكيف كانت حركة حماس ستُتهم من العرب قبل العجم، بأنّها تعمل بكل ما أوتيت من قوة لإفشال صفقة تبادل الأسرى، وتخيّلوا كيف كان سيكون رد الفعل من صنّاع القرار في مصر، أم الدنيا، الذي لم يتورع وزير مخابراتها، الجنرال عمر سليمان، عن تهديد قادة حماس بالقتل، من قبل أصدقائه الإسرائيليين، في حال واصلوا، وفق منطقه، التعنت وعدم الرضوخ للشروط الإسرائيلية لإخراج صفقة التبادل إلى حيّز التنفيذ.المرحلة حاسمة ودقيقة للغاية، والسؤال الذي سيبقى مفتوحاً أمام الفلسطيني، الأسير أو المحرر، ما هو الأفضل البقاء في سجون الاحتلال، أم التهجير والتشريد إلى دولةٍ غربية أو عربية، سؤال نطرحه لأنّ جميع أبناء الشعب العربي الفلسطيني في مناطق الـ48 وفي الضفة الغربية المحتلة وفي قطاع غزة وفي مخيمات الشتات في الأردن وسورية ولبنان هم من اللاجئين أو الرهائن أو الأسرى أو سجناء، والاختيار بين السجن الصغير وبين السجن الكبير هو خيار صعب، إن لم يكن الأصعب، مع أل التعريف.* رئيس تحرير صحيفة ’مع الحدث’ فلسطين