بدأت مشكلة الملف النووي الإيراني تتصعد بشكل واضح منذ أغسطس 2002 عندما تم تسريب معلومات عن إنشاء إيران لمفاعلين نووين متقدمين، والتحقيق الذي جرى بواسطة الوكالة الدولية، الذي أظهر أن إيران قد انتهكت التزاماتها في ضرورة الإعلان عن نشاطاتها النووية، وواصلت برنامجاً سرياً لإنتاج مواد قابلة للانشطار، لتصل إلى مراحل متقدمة في مجال التعامل مع المواد النووية. في هذا الصدد سعت الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة لإحالة ملف إيران النووي لمجلس الأمن لاتخاذ الإجراءات العقابية اللازمة بحقها، وهذا ما رفضته إيران جملة وتفصيلاً. وقد تم الإشارة إلى ذلك في أكتوبر 2003 تحت ادعاء عدم تعاون إيران في الملف النووي مع الوكالة الدولية، الأمر الذي دفع طهران إلى عقد اتفاق مع وزراء خارجية فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، تم بمقتضاه إجراء تعليق مؤقت في نشاطها النووي والتقيد بالبروتوكول الملحق بعمل الوكالة الدولية والمتعلق بإجراءات التفتيش المسبق والفجائي للمواقع النووية، وتوفير معلومات كاملة عن برنامجها النووي. ووعد الوزراء الأوروبيون بأن القضية لن تذهب إلى مجلس الأمن، وأن تلك الدول ستوفر تكنولوجيا نووية لإيران تستخدم لأغراض مدنية إذا التزمت بتعهداتها. بالرغم من هذا الاتفاق لم تتراجع الأزمة وظلت ورقة أمريكية ضاغطة باستمرار على إيران لتكبيل تحركاتها تجاه قضايا تراها الولايات المتحدة مهمة لمصالحها. عليه فقد تفجرت أزمة رفض إيران لمجيء المفتشيين الدوليين وإرجاء موعد زيارتهم، ثم اضطرارها للقبول بعد أن وصلت الأزمة مع الوكالة الدولية بضغط أمريكي إلى منحنى خطير، وهذا ما دفع الأخيرة لتكرار المطالبة بإحالة ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن، مما اضطر إيران إلى القبول بإعلان توقفها عن تطوير معدات نووية ابتداءً من 9/4/2004. لكن مع شعور إيران بأن تعاونها مع الوكالة، لم يؤد لتحسين موقف مجلس أمناء الوكالة من جانبها، اتخذت قراراً في يوليو 2004 باستئناف تصنيع أجهزة الطرد المركزي، الأمر الذي دفع مجلس الأمناء في سبتمبر 2004 لإصدار قرار شديد اللهجة يطالب إيران بوقف كل عمليات التخصيب، وحدد موعداً نهائياً حتى نوفمبر 2004 لامتثال إيران الكامل لهذا الطلب. وعقب جولات من الشد والجذب، توصل الجانبان الإيراني والأوروبي إلى اتفاق مبدئي في نوفمبر 2004، عرف بـ اتفاق باريس، بموجبه تجمد إيران أنشطة تخصيب اليورانيوم، ثم يجري بعد ذلك التفاوض للتواصل إلى حل كامل للأزمة، بما في ذلك مساعدة إيران في برنامجها النووي المدني. ووفق هذه الصيغة، أعلنت طهران في 14/11/2004 موافقتها المبدئية على تعليق برنامجها لتخصيب اليورانيوم. أصبح اتفاق باريس لاحقاً بمثابة الركيزة المحورية التي تدور من خلالها كافة تفاعلات الأزمة النووية الإيرانية، وقد جرت عدة جولات من المفاوضات بين الجانبين حول الاتفاق على الترتيبات التفصيلية اللازمة لتنفيذ اتفاق باريس، وقد توصل الجانبان في مايو 2005 إلى اتفاق يقضي بأن تقوم دول الترويكا الأوروبية بإعداد مقترحات تفصيلية لإيران في ضوء اتفاق باريس، وذلك بحلول أوائل أغسطس، بحيث يشرع الجانبان في بحث آفاق صياغة اتفاق شامل ونهائي بينهما لتسوية الأزمة النووية. إلا أن الأزمة عادت للتصعيد مجدداً فى أواخر يوليو 2005، بسبب إعلان الرئيس محمد خاتمى اعتزام إيران استئناف أنشطة تخصيب اليورانيوم فى منشأة أصفهان النووية، بالإضافة إلى الخلاف الإيرانى-الأوروبى بشأن موعد استئناف جولة المفاوضات الجديدة بينهما، والتي كان ينتظر أن يقدم الأوروبيون خلالها مقترحات تفصيلية بشأن تنفيذ اتفاق باريس. مع تولى محمود أحمدي نجاد الحكم في إيران، شهد الملف النووي الإيراني تطورات كبيرة تصب معظمها في غير صالح إيجاد حل للإشكالية الدائرة حول هذا الملف. وذلك في ضوء السياسة المتشددة التي اتبعها نجاد واللهجة التصعيدية التي أظهرها منذ بداية توليه المسؤولية، وتأكيده على المضي قدماً في البرنامج النووي، رغم كل التهديدات التي وصلت إلى حد إمكانية توجيه ضربة عسكرية لطهران. لكن مع التقدم المستمر في البرنامج النووي، وفي الوقت الذي أدرك فيه العالم أن فرص شن حرب على إيران تتضاءل، ركزت واشنطن جهودها على العمل على إصدار المزيد من القرارات الدولية التي تفرض عقوبات على طهران، وتزيد من الضغط الدولي الواقع عليها للتخلي عن برنامجها النووي. فمنذ تفجر الأزمة النووية الإيرانية أواخر عام 2002 وحتى تاريخه، اعتمد مجلس الأمن 5 قرارات ملزمة ضد إيران، ورغم ذلك استمرت إيران في تخصيب اليورانيوم واستمر تصعد الخلاف حول الملف النووي بين طهران والغرب وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية. واستمراراً في الخلاف، يأتي كشف إيران في سبتمبر الماضي عن موقع جديد لتخصيب اليورانيوم في قم، كما لم تفلح المفاوضات الأخيرة في مطلع شهر أكتوبر في جنيف بين طهران ودول 5+1 في إيجاد حل للإشكالية القائمة حول الملف النووي، حيث تفاوضت طهران مع كل من واشنطن، موسكو وباريس على اتفاق حول تخصيب اليورانيوم في الخارج. كما شاركت الدول ذاتها في 19 أكتوبر في اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا حول الموضوع ذاته. هذا وكانت قد أعلنت مجموعة 5+1 عن استعدادها لتزويد إيران بوقود نووي بنسبه 20% لصالح مفاعل البحوث العلمية في طهران، شريطة أن ترسل إيران 75% من وقودها النووي منخفض التخصيب بنسبة 3.5% والبالغ 1500 كيلوغرام إلي الخارج. بالرغم أن إيران تعاملت إيجاباً مع مسودة اتفاق جنيف في هذا الصدد في بادئ الأمر، إلا أنها عادت وعارضت ذلك. وهذا بدا واضحاً في تصريحات المسؤولين الإيرانيين وآخرها إعلان وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي أن بلاده "ترفض مسودة الاتفاق النووي ولن تسمح بنقل ثلثي اليورانيوم الذي لديها للتخصيب في الخارج"، موضحاً أن "إيران تقبل فقط تبادل اليورانيوم منخفض التخصيب الذي لديها بوقود نووي داخل أراضيها في عملية تتم بشكل متزامن"، مضيفاً "بالتأكيد لن نرسل الوقود المخصب بنسبة 3.5% إلى الخارج ولكن يمكن أن ندرس مبادلته بوقود نووي على أن يتم التسليم والتسلم في وقت واحد داخل إيران". يلاحظ وكعادة السياسة الإيرانية تجاه العديد من الملفات، أنها أدارت ولا تزال الملف النووي بعقلانية كبيرة مستندة إلى أدواتها وأوراقها التي تعطيها القدرة على المناورة، مستغلة الأوضاع الإقليمية والدولية التي لا تصب في صالح إحداث مزيداً من الضغوط، للحد الذي قد يصل إلى العمل العسكري ضدها لثنيها عن الاستمرار في برنامجها النووي. كما أن مزيداً من العقوبات أيضاً يقع في الاتجاه ذاته، فالعقوبات التي ُفرضت على طهران منذ نجاح الثورة في عام 1979 والتي تصعدت وتعاقبت بعد ذلك، لم تثنها عن التقدم في المجالات كافة، للحد التي أصبحت قوة لها مكانتها وبشكل لافت على الصعيد الدولي. ترى إيران في تقدمها على صعيد برنامجها النووي أنه يعطيها دفعة قوية وخطوات للأمام في تحقيق الاقتدار الوطني، ويرسخ أقدامها كدولة لها هيبتها، بل أنه يخدمها كثيراً في تحقيق العديد من المكاسب السياسية والاقتصادية، لذا فلن تتنازل طهران عن حقها في تخصيب اليورانيوم ولو جزئياً دون تحقيق أكبر المكاسب في هذا الصدد، كما أنها ستظل تستخدم برنامجها النووي كورقة ضغط لتحقيق المزيد من مصالحها، فهي لن تتوانى في خلق الذرائع التي تجعلها تتخلى عن أي اتفاق –حتى في حال أُنجز-يمس حقها في تخصيب اليورانيوم في سبيل تحقيق ذلك. من جهتها أيضاً لن تتخلى طهران عن حقها في بناء قدراتها النووية لأنها دولة تعتمد في الدرجة الأولى على قدراتها الذاتية في البناء وهي تعتز بذلك كثيراً، وترى أن ذلك جعلها دولة ذات مكانة رغم كل العقوبات والقيود المفروضة عليها. عليه فالمعطيات على أرض الواقع تشير حتى في حال تم توقيع اتفاق يقضي بتخصيب اليورانيوم في الخارج فلن يكتب له الديمومة لأن الطموحات الإيرانية تدفعها في العدول عن أي اتفاق في سبيل تحقيق المزيد من الاستفادة من برنامجها النووي سواء على صعيد بناء قدراتها الذاتية أو استخدامه كورقة ضغط من أجل تلبية مصالحها الخارجية. من زاوية أخرى وفي حال التزمت طهران في أي اتفاق من هذا النوع، فلن تؤل جهداً في بناء مزيداً من المنشآت النووية السرية التي تعمل من خلالها على إنتاج المزيد من اليورانيوم المخصب بما يحقق أغراضها وأهدافها.