يؤكد المؤرخ الإسرائيلي البارز بروفيسور شلومو زاند أن إسرائيل دولة غير ديمقراطية، رغم وجود مساحات من الليبرالية فيها، محذراً من أن الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر هم أول المتضررين من حكومة نتنياهو وشركائه الغيبيين المتشددين. وبذلك ينضم زاند، المحاضر في جامعة تل أبيب، لعدد متزايد من سياسيين ومثقفين إسرائيليين يحذرون من أن حملة حكومة نتنياهو على الجهاز القضائي ستعمق عدم كونها ديمقراطية، ويكشفها على تهديدات وجودية.
في مقال نشرته صحيفة “هآرتس”، يطعن زاند بثقافة ومعرفة رئيس حكومة الاحتلال. يستذكر زند أن نتنياهو أعلن، خلال المؤتمر الصحافي الذي عرض فيه خطته الاقتصادية في 11 يناير/ كانون الثاني الجاري، أن الديمقراطية وسلطة القانون تتعلق بالتوازن بين السلطات الثلاث. ويتابع: “هذا ما قاله جون لوك ومونتسكيه، أكبر فلاسفة الديمقراطية الحديثة”.
لو أن نتنياهو كلف نفسه عناء قراءة المصادر لكان عرف أنه بالإمكان تمييز هذين المفكرين من القرن السابع عشر والثامن عشر بعدد غير قليل من التعريفات السياسية. ولكن بالتأكيد لا يمكن القول إنهما كانا ديمقراطيين. لو أن رئيس الحكومة اطلع على نصوصهما لوجد بأنهما لم يفكرا لحظة بأن جمهور الرعايا البسطاء، الذين لا يملكون أي شيء، الأغلبية الحاسمة في المجتمعات في تلك الفترة، يوجد لهم الحق في تحديد من سيكون سيدهم. كان يجب انتظار جان جاك روسو وراديكاليين بعده في الثورة الفرنسية من أجل أن يبدأ هذا المبدأ الديمقراطي بالعمل، وضعضعة وهز التاريخ الحديث”.
ويقول زند إنه لم يكن ليتوقف عند جهل نتنياهو التاريخي لو أن قضية الديمقراطية كانت واضحة لكل من يحملون اسمها علناً، ويقسمون مراراً وتكراراً على رؤوس الأشهاد بأنهم ديمقراطيون مخلصون. ويضيف زند: “أولاً، سواء لوك أو مونتسكيه كلاهما حظي في الأدبيات البحثية بلقب “الليبراليين” وبحق. كلاهما، بهذا القدر أو ذاك، قدم تعبيراً نظرياً أصيلاً لصعود نخب اقتصادية – اجتماعية جديدة، عملت وحاربت من أجل تقليص المكانة المطلقة للملكية وإقصاء الهيمنة الكاملة للنبلاء. في الواقع، يمكن أن نرى في الثورة المباركة في العام 1688 في إنجلترا بداية ظهور الليبرالية السياسية (وليس الديمقراطية) بالفعل، هذا تجديد في التاريخ”.
ويرى المؤرخ الإسرائيلي زاند أنه، على هذا، يجب الإضافة أنه في العام 1893، عندما وصل للمرة الأولى ديمقراطيون إلى مراكز السلطة الفرنسية، أي الذين طالبوا بتطبيق مبدأ “رجل واحد، صوت واحد” (حتى ذلك الوقت لم يكن “امرأة واحدة، صوت واحد”) لم يكونوا ليبراليين تماماً في مزاجهم. وينبه إلى أن فصل السلطات، تقييد صلاحيات السيد، أو مبدأ التعددية السياسية، كانت بعيدة عن قلوبهم. فعلياً، مرت مئة سنة أخرى إلى أن تبلورت في الدول الغربية الصناعية، التي تخلط الأنظمة فيها الليبرالية مع الديمقراطية (بالطبع للرجال فقط)، ضمن أمور أخرى في أعقاب ضغطها وزيادة الأصوات الانتخابية لحركات طبقة العمال الجديدة.
القرن العشرون
في القرن العشرين، مرحلة بعد أخرى، اعتبرت جميع النخب السياسية تقريباً نفسها ديمقراطية، حيث إنه في نهاية المطاف كل النخب موجودة، ولكن فقط لخدمة من تمثلهم بإخلاص. ويشير إلى أن البلاشفة اعتبروا أنفسهم ديمقراطيين أصيلين؛ لأنهم طبقوا مبدأ حق الانتخابات العامة والمباشرة للسوفييت. وعن ذلك يضيف المؤرخ الإسرائيلي: “اعتبر بنيتو موسوليني الفاشية نظاماً ديموقراطياً أكثر من الأنظمة البرلمانية؛ لأنه أعطى تعبيراً أصيلاً ومباشراً أكثر للجمهور في الشوارع. أيضاً دول أوروبا الشرقية الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية اعتُبرت، كما هو معروف، ديمقراطيات شعبية”. كما يشير زاند إلى أن الثورات في الصين وفيتنام، وفي معظم الدول في العالم ما بعد الكولونيالي، اعتبرت نفسها ديموقراطيات أصيلة.
تناقض واضح بين يهودية وديمقراطية
ويتساءل المؤرخ الإسرائيلي موشيه زاند؛ هل صحيح أنه يوجد في إسرائيل ديموقراطية ليبرالية؟ عن ذلك يقول إنه في ما يعرف بـ “وثيقة الاستقلال” في العام 1948 اعتبرت الدولة “يهودية”، رغم أن مفهوم “شعب عبري” يظهر فيها وهي تسمى إسرائيل. زاند، الذي صدرت له سلسلة كتب أكد فيها أن الصهيونية اخترعت “الشعب اليهودي” واخترعت “أرض إسرائيل الكاملة”، يتابع في نفيه لمزاعم إسرائيل بالديموقراطية القول: “لأن تعريف “يهودية”، الذي ليس مثل “عبرية” أو “إسرائيلية”، لا يعتبر تعريفاً ثقافياً شاملاً مفتوحاً ومرناً يمكن أن يشمل داخله أيضاً مواطنين لا يعتبرون يهوداً، بل هو تحديد انتماء اثني– ديني متصلب وإقصائي، فإن التمييز مبني في تعريف إسرائيل الذاتي، ومصطلح “ديموقراطية يهودية” هو تناقض واضح”.
وللتدليل على نفيه صفة الديموقراطية عن إسرائيل يقول زاند أيضاً إن الولايات المتحدة لم تكن تعتبر ديموقراطية لو أنها رأت نفسها دولة لأبناء الأصل البروتستانتي. كذلك يقول إنه لم نكن لنعتبر بريطانيا دولة ديموقراطية لو أنها تجاهلت الويلزيين والاسكتلنديين وقالت إنها تنتمي للشعب الإنكليزي فقط. ويمضي في أمثلة عالمية: “نعم، لم نكن لنعتبر فرنسا جمهورية لو أنها اعتبرت نفسها دولة الشعب ذي الأصل الغالي – الكاثوليكي”.
ديمقراطية هي دولة كل مواطنيها
ويؤكد الباحث الإسرائيلي أن الديموقراطية من مجرد التعريف تعني أن تكون دولة كل مواطنيها، لا تأخذ في الاعتبار مبدأ تعدد الأصل الإثني، مهما كان متخيلاً بهذا القدر أو ذاك، وبالطبع ترى هدفها النهائي أن تخدم بمساواة كاملة جميع الخاضعين لها، من أجل أن يتماهوا معها ويذوتون ويحترمون عن طيب خاطر، وليس فقط بالإكراه، قوانينها. هذه هي الطريقة التي يتم بها تحقيق الحكم غير المتضارب في الدول الديمقراطية الليبرالية”. ويتابع زاند في نقده إسرائيل: “نظراً لأن إسرائيل أعلنت “ديموقراطية يهودية” فيجب ألا نستغرب من أنه بعد أشهر قليلة على إعلان الاستقلال فرض على مواطنيها العرب حكم عسكري، ما قيد بصورة شديدة حرية حركتهم وحقوق مواطنتهم. هذا الحكم المناوئ للديمقراطية والمناوئ لليبرالية استمر حتى 1966، أي طوال فترة وجود دافيد بن غوريون في رئاسة “مباي”. أيضا رئيس الحكومة الأول هو الذي قاد، إلى جانب القوائم الدينية، وخلافاً لموقفه القاطع من خصمه مناحيم بيغن، المعارضة المتشددة لوضع دستور في إسرائيل.
ديمقراطية مهزوزة لدولة لم تكن لجميع مواطنيها، بل ليهودييها ويهود العالم، الذين يرفضون بمعظمهم، بعناد غريب، الهجرة إليها والعيش فيها.
ستالين أيد إسرائيل أكثر من ترومان
ويقول إن بن غوريون، كمؤسس للدولة العبرية، لم يأخذ في الاعتبار بشكل خاص الليبرالية السياسية، ولو كان يستطيع، فإنه كان قد أخرج إلى خارج القانون حركة حيروت والحزب الشيوعي الإسرائيلي، لكنه فهم بشكل مبكر جداً، ليس مثل موشيه سنيه ومئير يعاري مثلاً، أنه رغم أن جوزيف ستالين هو الذي أيد أكثر بكثير من الرئيس الأمريكي هاري ترومان إقامة دولة يهودية وتسليحها، فإن مستقبل الدولة سيكون متعلقاً بدرجة كبيرة جداً بالنظرة المستقبلية لليهودية الليبرالية الأمريكية تجاهها. ويقول زاند إنه من هنا، ضمن أمور أخرى، جاء اختيار تعريفها “يهودية” وليس “عبرية” أو “إسرائيلية”. ومن هنا أيضاً جاءت المؤسسة الديموقراطية المهزوزة لدولة لم تكن وبحق لجميع مواطنيها خلال 75 سنة تقريباً، بل ليهودييها ويهود العالم (الذين يرفضون بمعظمهم، بعناد غريب، الهجرة إليها والعيش فيها).
دولة إثنية ليبرالية
ويرى المؤرخ الإسرائيلي أنه حتى لو لم تكن في إسرائيل ديموقراطية حقيقية في أي يوم من الأيام، وقانون القومية من العام 2018 عاد وأكد على ذلك بصورة صريحة، ورغم أن الدين لم يتم فصله في أي يوم فيها عن الدولة، واليهودي لا يمكنه أن يتزوج فيها من غير اليهودية، رغم كل ذلك يمكن اعتبارها بعد ترددات كثيرة “دولة إثنية ليبرالية”. وعن ذلك يضيف: “هي حقاً بدأت، بعد فترة معينة من ذهاب بن غوريون، في تطوير وترسيخ ليبرالية حذرة، لكنها ثابتة. فإنه منذ نهاية السبعينيات، ورغم احتلال “المناطق” (الضفة الغربية المحتلة) وتشكل فضاء سيطرة غير ديموقراطي جديد، لا سيما في التسعينيات، بالأساس بسبب تبدل الحكم، تقدمت مبادئ الليبرالية مثل فصل السلطات، والتعددية السياسية (في الستينيات كانوا يحظرون على حركة “الأرض” التنافس في الانتخابات) وما شابه. كما يرى أن السلطة القضائية قد تعززت في إسرائيل قبيل نهاية القرن السابق، ورسخ عدد من قوانين الأساس بصورة أشد حقوق المواطن الأساسية، وهذه شملت بدرجة معينة أيضاً الجمهور العربي في إسرائيل.
حكومة فاسدة
ويوضح أن صعود يمين ديني قومي متطرف ومستبد إلى الحكم، في نهاية 2022، يمين غارق في تحالف مع نخبة سياسية عدد غير قليل من أعضائها مهدد بسبب مخالفة رشوة وتحايل جر خلفه فوراً عدداً كبيراً من الاقتراحات والإجراءات غير الليبرالية بشكل واضح. وينبه إلى أن معسكري الوسط واليسار في إسرائيل لا يدققان عندما يدعيان بأن الحكومة الجديدة لنتنياهو تنوي إلغاء أو تقليص “الديموقراطية اليهودية”. ويتابع: “جميعهم، يساراً ويميناً على حد سواء، ما زالوا يتمسكون بها بحزم أعمى. ولكن إذا ساهم اليمين المتماثل مع تيار مناحم بيغن الليبرالي بقدر لا بأس به في تعزيز الليبرالية الإسرائيلية، فإن تحالف اليمين التابع لتيار نتنياهو بصورة صريحة ينوي بخطواته الأولى تقليص الاستقلالية النسبية لمنظومة القضاء في إسرائيل. ويقول إن الحكومة الجديدة بدأت عملها بالانقضاض الشامل على فصل السلطات، وهو المبدأ الليبرالي المهم، والذي، كما هو معروف، تم تمجيده من قبل مونتسكيه عن طريق إخضاع مطلق للمحكمة العليا لنزوات منظومة القوة السياسية المنتخبة. ويتابع: “في دولة لا يوجد فيها دستور مثل إسرائيل فإن الحديث يدور عن مدخل للتدهور، من شأنه أن يحولها إلى ما أعده فيكتور أوربان لهنغاريا، قبل عشر سنوات، وما بدأ جايير بوليسنارو في تطبيقه في البرازيل، ولم يكن له الوقت الكافي لإكماله”.
زيادة العداء لفلسطينيي الداخل
ويخلص المؤرخ الإسرائيلي بروفيسور موشيه زاند للقول إنه من المشكوك فيه إذا كان النظام الشعبوي الجديد في إسرائيل سيكتفي بذلك. وينوه أنه بعد تقليص الليبرالية القانونية، كما يبدو، سيأتي أيضاً تصلب شديد أمام الجمهور العربي في إسرائيل، وأيضاً التشديد في قمع السكان في الضفة الغربية. ويضيف: “عدد من وزراء الحكومة الجديدة أيضاً يعيشون خارج حدود إسرائيل، سواء في الخليل أو في كدوميم أو في ريمونيم. بالطبع ليس هذا سبباً كافياً لضم الضفة الغربية أخيراً إلى إسرائيل، حيث إن العالم قد ينذهل، لا سمح الله، بسبب الأبرتهايد الواضح، لكن بالتأكيد توجد هنا فرصة جيدة لضم إسرائيل إليها، وبذلك تتقلص أكثر الليبرالية الإسرائيلية الآخذة في التضاؤل”.