والله وشفتك يا علميمرفوعاً فوق رايات الأمم!لكل منا حكاية مع العلم. وأروع الحكايات، تلك المنسوجة خيوطها بدماء أولئك الذين استشهدوا وهم يحاولون رفع العلم فوق أعمدة الكهرباء أو فوق أسطح المنازل أو فوق أبراج المراقبة العسكرية. علمنا المصبوغ بألوان طيفنا السياسي المتعدد وطبيعة بلادنا المزهرة بالخضرة النضرة والحمرة القانية والبياض الآسر وظلال المآذن وأبراج الكنائس المنعشة، رمز كرامتنا وتعبير عن وحدتنا وتجسيد لإرادة شعب قرر الانتصار لحقه المسلوب. كيف تمزق هذا العلم وبات حبل مشنقة نشده على رقاب بعضنا البعض؟ تدوسه أقدام بعض الغافلين السذج، حاملي الهراوات وصائدي الطرائد في الساحات وأروقة الجامعات، وهم لا يعلمون أنهم بفعلهم هذا إنما يدوسون تاريخهم وكرامتهم وفخرهم بين الأمم!في أول خروج لي من أرض الوطن الرازح تحت نير الاحتلال، كنت أفكر كيف أجعل من العلم المرسوم في دفتري خفية، رايةً تخفق فوق سارية. كنت، بصحبة جدتي، أمر بجوار مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بعمان في طريقنا إلى مكان ما. فجأة التفتت الجدة وقد لاحظت اختفائي من جوارها، عادت القهقرى كاتمة صرخة من أعماقها: ماذا تفعل؟ راح يبهدلوك! كنت واقفاً منتصب القامة مرفوع الرأس شاخص العينيين مضموم الساقين أؤدي تحية واجبة لراية رباعية الألوان تخفق مع الريح فوق مقر مكتب المنظمة.أصر إلياكيم روبنشتاين على نزع العلم من ياقة جاكيت أحد أعضاء الوفد الفلسطيني في واشنطن، وأصر الراحل حيدر عبد الشافي على بقاءه، وأمام إصرار الرجلين العنيدين، تدخل الجانب الأميركي وبعد مفاوضات عسيرة وطويلة استقر الرأي على خلع الجاكيت ووضعه على ظهر المقعد وبقاء العلم!في مفاوضات تنفيذ اتفاقية معبر رفح أصر الإسرائيليون على أن العلم الفلسطيني يرسم على حائط صالة المسافرين، رفض اللواء عمر عاشور ذلك وأصر على رفع العلم على سارية واستعان بفقه اللغة العبرية التي يجيدها، فالفعل المستخدم في النسخة العبرية للاتفاقية يشير إلى الحركة، ولا يمكن للعلم أن يتحرك طالما كان مرسوماً على حائط! أفحمتهم الحجة وغلبهم إصرار الرجل.كلارا كانت طفلة في مخيم، أطلال مخيم خارج للتو من المذبحة. طفلة في الخامسة تبكي بمرارة وبراءة: أقرانها اللبنانيون يحملون أعلام بلدهم، فلماذا لا ترفع علم فلسطين؟ رق لها قلب أجنبي لا ينطق صاحبه العربية ولا يدين بالإسلام ولا يؤمن بقضية فلسطين، فقط يحمل مشاعر إنسانية بين جوانحه. وفي موعدها مع ربيع فلسطين المتأخر هذا العام، ربيعها الحادي والعشرين، وقد عادت إلى أول الوطن، تلفعت، كما أقرانها، بالعلم والكوفية وجابت شوارع غزة المنكوبة بالانقسام والحصار والعزلة، تصرخ مطالبة بالمصالحة؟ أوليس الصلح خير؟ أوليس خيرهما الذي يبدأ بالسلام؟ أوليس جميعنا ضد الانقسام؟ فلماذا ُتكسر يدها وُتشتم ببذاءة ويُمزق العلم على رقبتها، ولا يرق لها قلب-فقلوب البعض ُقدت من حجر- سوى قلب والدتها وقلوب بعض أصدقاءها ممن أخفوا رعشة قلوبهم الواجفة وراء الحائط في جوار موقع "أنصار" كي لا ُيضبطوا بجرم بات في زمن الانقسام مشهودا. ترى ما الذي جال بخاطر المحقق وهو يسمع لسيدة، ظن أنها لبنانية لجرأتها عليه وحديثها المسهب عن وحشية الكتائب اللبنانية وقسوة قلوب رجال أمل المحاصرين للمخيم، تحكي له قصة ابنتها مع العلم وهي مجرد طفلة؟ وهو ذاته، ربما رفع هذا العلم حين كان طفلاً في الانتفاضة الأولى؟ ما الذي غيره، ما الذي يجعله خائفاً من شابة ترفع علماً وتهتف ضد الانقسام؟ الأخلاق العامة؟ الأمن القومي؟ المصلحة العليا للشعب الفلسطيني؟ تعكير صفو حياة الناس الآمنة؟ صحيح أن قوى الأمن لم تفرط في استخدام القوة ولم تلجأ إلى كل الأساليب التي استخدمتها قوى الأمن ومرتزقة الأنظمة في البلدان العربية، غير أن الصحيح أيضاً أن أي تحرك من قبل الأجهزة الأمنية ضد المطالبين بإنهاء الانقسام يفتقر إلى المشروعية الأخلاقية والدواعي الأمنية. لم تحدث أعمال عنف وتخريب من قبل المتظاهرين، لم يرفع أحد شعار سقوط النظام أو رحيل الزعيم، أو محاكمة الفاسدين والمفسدين، فقط هتفوا بإنهاء الانقسام. رب قائل، وماذا يعني إنهاء الانقسام غير سقوط البعض أو رحيلهم أو محاكمتهم؟ بالنسبة لكلارا وأقرانها إنهاء الانقسام يعني إنهاء الانقسام، أي الوحدة في مواجهة الاحتلال وفي بناء الوطن مع المحافظة على التمايز والتعدد والتنافس في إطار نظام سياسي واحد.أيها السادة القائمون على أمرنا، بالرضا أو الإكراه، إذا كان بالإمكان تفسير، وربما "تفهم" لجوء نظام حكم عربي إلى قمع مواطنيه أو اتهامهم بالعمالة، خشية السقوط وتعرض رأس النظام وأزلامه للمساءلة والمحاكمة وفقدان السلطة والجاه، فإن من الصعوبة بمكان تفسير ما يحدث في بلدنا، نحن المنكوبين مرتين: بالاحتلال مرة وبالانقسام مرة أخرى؟ ما الذي يجعل من تحركات فتية وفتيات للمطالبة بإنهاء الانقسام أمراً خطيراً وقضية أمنية تستحق الملاحقة والمتابعة وانتهاك القانون والأعراف والقيم الوطنية حد تمزيق العلم وتوجيه الشتائم البذيئة للحرائر من بناتنا وضربهن بقسوة على مرأى ومسمع من الناس؟لا شيء البتة!لا شيء يستحق منا أن نعذب بعضنا البعض طالما أن هناك من يعذبنا جميعاً على مدار الساعة، لا شيء يعطي بعضنا أفضلية على الآخرين طالما أن أحداً لم يحرر سديروت بعد أو حتى يحول دون ضياع بلعين، أو يعيد اللاجئين إلى ديارهم التي شردوا منها. لا شيء يجعل من أحدنا وصياً على قلوبنا وضمائرنا وأخلاقنا وفعلنا وحريتنا المسلوبة. القوة المجردة وحدها لن تنفع ولن تجدي، ولن تردعنا طويلاً، فقد نخاف للحظة، ليوم، لسنة، ولكننا عند نقطة معينة، لحظة فارقة، سنغضب ونثور لكرامتنا وشرفنا وعزة نفوسنا، سنغضب مثلما فعلنا دوماً، سنغضب لأن الغضب مشروع لمقهور، ولأن الأمر زاد عن حده وبات يفتقر إلى المنطق والمبرر والداعي!وإذا كان لا بد من بقاء الانقسام إلى حين لأسباب سياسية ودواعي إقليمية واستحقاقات فئوية، فليكن! قد نبلع الأمر مضطرين ومكرهين، ولكن دعونا لا ندفع ثمن المقامرة بالمصير مرتين: مرة بإضاعة الطريق إلى تحقيق المصير، ومرة بانتهاك حقوقنا الأولية في التعبير عن آراءنا بحرية ودون التعرض للقمع والملاحقة وسماع الشتائم وتوجيه التهم بالتواطؤ والعمالة، وخصوصاً التعرض لبناتنا، فغزة لا تحتمل اللعب بالنار.