المستمع للإذاعات المحلية والمشاهد للقنوات والقارئ للصحف الفلسطينية والمتتبع للمواقع الإخبارية الالكترونية المختلفة، خلال الأيام الماضية، يلمس نبرة عالية من التفاؤل تجاه انجاز ملف المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام بين شقي الوطن، وينتابه شعور بانتعاش آمال إحياء ما كان قد مات من توافق وطني في وثيقة الوفاق الوطني أو اتفاق مكة، وربما يكون مرد ذلك الشعور وهذا الإحساس هو ازدياد كم التصريحات والأقوال لقيادات عديدة من حركة فتح وسلطة رام الله، وتركيزها في بعضها على ضرورة الوحدة واللحمة سيما في ظل ما تشهده الساحة الفلسطينية من تشرذم وضعف، وما تعيشه المنطقة من تقلبات وتغيرات مفاجئة. وكعادتها خرجت هذه القيادات في جانب من الصورة لتحمّل حركة حماس مسئولية الانقسام وتبعاته، وتحاول الظهور في الجانب الآخر بمظهر الحريص على الوحدة، هذه التصريحات الداعية للمصالحة التي لم تكن الأولى في تاريخ الانقسام الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، لا تعكس واقع الحال، سيما وأن من تفوهوا بها خبرهم الشعب الفلسطيني جيدا، قبل الانقسام وبعده، ويعلم الشعب علم اليقين مدى صدق ادعاءاتهم أو كذب أقوالهم، وهل تصريحاتهم نابعة من إرادة حرة وصادقة أم هي بالونات اختبار في الهواء للاستهلاك المحلي وللكسب الإعلامي. مبدئيا لا ينكر عاقل أهمية الوَحْدة والاصطفاف الداخلي في أي مجتمع، وذلك لتحقيق أهداف المجتمع والنهوض بواقعه، وفي حالتنا الفلسطينية الأمر أكثر إلحاحا، وأعظم ضرورة، فنحن مجتمع يقبع تحت احتلال استيطاني أحد أهم أهدافه: إحداث الفرقة وتمزيق بناء المجتمع وتفتيت تماسكه، وبالتالي يكون لزاما علينا التوحد ونبذ الفرقة، ولكن هناك أسئلة تشكيكية تراود الناس كثيرًا وتعكس حالة فقدان الثقة بإجراء هذه المصالحة وهي: هل هذه المصالحة ممكنة؟ وكيف يمكن أن تتم؟ وعلى أي أرضية؟ وما هي مقومات نجاحها وإتمامها وضمانات استمرارها؟!.. كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير تقفز إلى الذهن بمجرد الحديث عن المصالحة، ونحن لسنا في وارد الإجابة عن هذه الأسئلة جميعا، لأن الأيام ومواقف أطراف معادلة الانقسام، كانت ولا تزال كفيلة بالإجابة عنها، لمن يحسن التفكير والتدبر. ولكننا سنحاول قراءة التصريحات الأخيرة التي صدرت عن كل من نبيل شعث وعزام الأحمد عضوي اللجنة المركزية لحركة فتح، وذلك لفهم موقف سلطة رام الله وحركة فتح من موضوع المصالحة، ولنلاحظ أن هذه التصريحات جاءت بعد فضيحة وثائق المفاوضات التي كشفتها فضائية الجزيرة، وسقوط النظام المصري الداعم بقوة لموقف سلطة رام الله، ومتزامنة مع الجمود الذي يكتنف المفاوضات بين سلطة فتح والاحتلال، والفيتو الأمريكي في مجلس الأمن ضد القرار الخاص بالاستيطان. فبينما أعلن نبيل شعث في وقت سابق إنه سيأتي لغزة لبحث دخول حركة حماس في حكومة وحدة دون الوصول لحل حول المصالحة، نجده يتراجع عن تصريحاته ويقول أنه بانتظار رد حماس على المشاركة في حكومة وحدة وطنية، لكي يزور غزة ويناقش التفاصيل، وهنا تسجل فتح على نفسها موقف مستغرب ومستهجن، لأن حكومة الوحدة الوطنية لم ولن تكون إلا جزء من الحل ونتاج له، وتظهر حركة فتح هنا كمن يضع العربة أمام الحصان، في موقف لا معنى له في ظل تصاعد الاعتقالات ومسلسل التعذيب في سجون فتح بالضفة، والجميع بات يدرك أن المدخل الحقيقي للمصالحة هو وقف الاعتقالات والإفراج عن المعتقلين وإنهاء كل تداعيات الانقسام السلبية على الحالة الفلسطينية وليس العكس. وفي تضارب وتناقض مع تصريحات شعث، خرج عزام الأحمد مسئول ملف المصالحة في فتح، داعيا إلى "هبة جماهيرية" في قطاع غزة ضد حركة حماس، بهدف إسقاطها، متهمًا إياها بأنها "تسعى لإدامة الانقسام"، ليقف المواطن حائرا بين أي الموقفين يصدق، وأيهما يحمل صفة الرسمية عن حركة فتح، وهل تعكس هذه التصريحات مواقف قائليها أم تعكس حالة التضارب والتخبط والارتباك التي تمر بها فتح، أم ربما تعكس فعلا موقف الحركة من المصالحة باعتبارها خطوة تكتيكية تستحضر متى شعرت فتح وسلطتها في رام الله بمأزق ما. وأيا كانت الإجابة، يبقى المواطن الفلسطيني مدركا للواقع، وباستطاعته أن يميز بين من يريد مصالحة إستراتيجية، تحقق التوافق والوفاق الوطني، على أرضية صلبة ودعائم قوية، لتبنى على ركائز الثوابت الفلسطينية التي لا جدال عليها، وبين من يتاجر بآهات وأنات الشعب الذي اكتوى بنار الانقسام، كما تعود أن يتاجر سابقا بمصير الشعب وقضاياه على طاولات التفاوض وغرف الاجتماعات المغلقة، فشتان بين من يريد المصالحة كمطلب حق لا يراد به إلا الحق والثبات عليه، وبين من يريدها باطلا ملتبسا في لباس الحق!.