لقد أعادت ألأحداث الأخيرة في تونس ومصر التأكيد من جديد على الدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في معادلات السياسة العربية ، وفى توجيه بوصلتها ، والتحكم في مساراتها . ولا شك أن هذا الدور يثير تساؤلات كثيرة حول ابعاده وأهدافه وتداعياته على مستقبل العملية الديموقراطية ، ومستقبل عملية الأصلاح السياسي . وحتى هذه اللحظة يمكن القول أن المؤسسة العسكرية المصرية تمارس دورا وطنيا كبيرا يرقى إلى دورها في السياسة المصرية ، وكيف أنها كانت بمثابة صمام ألأمان السياسي للحيلولة دون ألأنجراف في حالة من الفوضى قد تقود مصر إلى ألأنهيار ، وأنها حتى هذه اللحظة أيضا ساهمت وحافظت على هيبة الدولة المصرية وعراقتها ، لكن في الوقت ذاته لا بد من ألأشارة إلى أن ثورة شباب مصر قد أكدت على نضج ووعى سياسي كبير ، وأنها قد تكون الثورة الوحيده في العالم بهذا الحجم في العالم ، وحتى الدول الغربية نفسها لم تشهد مثيلا لها . اعود إلى موضوع المقالة بعد هذه المقدمة القصيرة والضرورية . ألأصل في علاقة العسكر بالسياسة هو تبعية المؤسسة العسكرية وعلى الرغم من أنها ألأقوى ، وألأكثر حداثة وألأكثر نزاهة وصلاحية من المؤسسات السياسية المدنية أخرى هو تبعية هذه المؤسسة للسلطة السياسية ، وهذا أحد مظاهر نظام الحكم الديموقراطى الذي يحفظ للمؤسسة العسكرية دورها في حفظ أمن الدولة والحفاظ عليه ضد أي أعتداء أو تهديد خارجى . ألا أن المؤسسة العسكرية تبقى أحد أهم مكونات المنظومة السياسية ، وليست بمنأى عما يدور من احداث وتطورات سياسية داخلية ، ولا يمكن الفصل بين ألأمن الداخلى وهو وظيفة جهاز الشرطة وألأمن الخارجى للدولة وهو وظيفة المؤسسة العسكرية ، فالأمران متداخلان ومترابطان ومتكاملان ، ومن هذا المنظور عندما تتدهور ألأوضاع السياسية الداخلية قد يتدخل الجيش ، وتتدخل المؤسسة العسكرية ، وهنا السؤال عن حدود هذا التدخل : هل يسمح بعودة الحياة السياسية والحفاظ على الشرعية السياسية الدستورية ، أم انه ينتهى إلى حكم العسكر وهذا أمر يتعارض مع ألأصلاح السياسي في النهاية .ومع الحكم المدنى الذي تسعى أليه كل الدول الديموقراطية .والمؤسسة العسكرية تكون مدفوعة بتدخلها لأسباب كثيرة منها : الفساد السياسي الذي ينخر في الجسد السياسي للدولة ، ويحولها إلى مؤسسة هشة ، وإلى التناحر وعدم الأتفاق بين الأحزاب والقوى السياسية ، وأنتشار مظاهر الفقر والكساد ألأقتصادى وغياب العدالة ألأجتماعية ، وفقدان الثقة في القيادات السياسية التي لا هم لها ألا الحكم .وتضاؤل أحترام نظام الحكم ، والحزب السياسي الحاكم ، وأحتمال التدخلات الخارجية من قوى إقليمية تستهدف امن ودور الدولة كما هو الحال فيما يجرى في مصر ، فلا شك إن هناك استهداف لدور مصر وهيبتها . ألي جانب الفشل الحكومى في التعامل مع مشكلات البطالة والفقر وزيادة الفجوات المعيشية بين فئة قليلة تحتكر كل مصادر الثورة والدخل وفئة تشكل ألأغلبية تعانى من أنعدام اى مصادر للدخل، وهذه المظاهر هي التي تقف إلى جانب العوامل ألأخرى للمطالبة بالتغيير . ومن ألأساب الأخرى المفسرة لهذا الدور أعتقاد أفراد المؤسسة العسكرية أنهم الأكثر حداثة وقدرة على ضبط ألأمور ، فالمؤسسة العسكرية تمثل القدرة والتأثير في المعادلة السياسية الداخلية لأى دولة . ويتباين دور المؤسسة العسكرية من نموذج ألي آخر ، ولا شك إن الدور الذي يقدمه الجيش المصرى يقدم نموذجا سياسيا رائعا لدور المؤسسة العسكرية ، فهي مع حفظ النظام وأستقراره ، وأمن الدولة ، وفى الوقت ذاته تتفهم وتؤيد المطالب ألأصلاحية التي ينادى بها الشباب في مصر ، وهو ما يؤكد على بعد ديموقراطى للجيش قد يبدو غائبا عن الكثير من المراقبين والمحللين . وحتى تبدو أهمية هذا النموذج ونتفهم حقيقة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمدنية في مصر لا بد من أن نشير إلى أهم النماذج العسكرية في العالم، وفى هذا السياق يمكن تحديد أربعة نماذج لهذه العلاقة : -النموذج ألأوربى -النموذج السوفيتى السابق - نموذج دول أمريكا اللاتينية -النموذج الأمريكى ويمكن أن نضيف اخيرا النموذج العربى والمصرى على وجه التمايز والخصوصية .أما النموذج ألأوربى فيقوم على الفصل التام بين المؤسستين ، مع تبعية المؤسسة العسكرية للمؤسسة المدنية بشكل كامل ، ومع البعد عن السياسة المدنية ، ويقوم هذا النموذج على أن النزعة العسكرية هي أصل كل شر ، وهنا يقدم النموذج الهتلرى للدلالة على هذه النزعة . وعلى النقيض من هذا النموذج النموذج السوفيتى السابق والذى شكل فيه الجيش أساس لنظام الحزب الحاكم ، فهو متغلغل في قلب النظام . حيث كان الحزب يمتلك الجيش مثل أي مؤسسة أخرى . ويقوم النموذج الثالث في دول أمريكا اللاتينية على عدم الثقة في القوات المسلحة ، حيث ينظر إلى الجيش على أنه مؤسسة قادرة في أي وقت على التدخل في السياسية المدنية ، ولذك هناك شبه قناعة على بقاء دور الجيش بعيدا عن السياسة ، وان يبقى ولائه للحكومة مهما كان الثمن .أما النموذج ألأمريكي فهو مختلف تماما ، وعلى الرغم من أشتراكه مع النموذج ألأوربى في الفصل وعلى تبعيته للسلطة المدنية ، لكنه نموذج يقوم على المهنية ، وله دورا مباشرا في كل القضايا ألأمنية ، وتستشار المؤسسة العسكرية وخصوصا في القضايا العسكرية ، ولما تقوم به هذه المؤسسة ألأقوى وألأكبر في العالم من دور في تحقيق أهداف ألأستراتيجية ألأمريكية العليا في العالم . مع العلم أن المؤسسة المدنية هي من يحدد هذا الدور وهذه ألحاجات الأمنية ، وقد يتم تجاهل دور المؤسسة العسكرية في هذه القضايا السياسية لعليا ، وانموذج التدخل في العراق واضح على ذلك ، لكن لا يمكن إن نتصور مثلا قيام أنقلاابا عسكريا في الولايات المتحدة . والسؤال ماذا يمكن إن نفهم من هذه النماذج ؟وهل من علاقة بين حكم العسكر والديموقراطية ؟ من المتفق عليه في أدبيات التنمية السياسية إن دور العسكر يتوقف على العديد من العوامل والمحددات التى تتشكل منها بيئة النظام السياسي ، ويتوقف على درجة التطور السياسي . ولا خلاف أيضا إن المؤسسة العسكرية أحد أهم المكونات السياسية للنظام السياسي ، وأن دورها تحدده طبيعة هذه المؤسسة ، وأهدافها المحددة دستوريا بحفظ ألأمن القومى للدولة ، لكنها في الوقت ذاته لها دور سياسي في الحياة السياسية إن لم يكن بشكل مباشر ، لكنهم كأفراد يشاركون في عملية ألأختيار السياسي ، وفى عملية التصويت السياسي . وعليه يتحدد دور هذه المؤسسة بمدى تطبيق النظام السياسي للمبادئ الديموقراطية في الحكم ، وفى درجة شفافية النظام السياسي ونزاهته ، وبقدر درجة الألتزام الديموقراطى بقدر الفصل بين السلطة المدنية والمؤسسة العسكرية ، وبقدر تبعية ألأخيرة للأولى . إذن المعيار في العلاقة يتوقف على المنظومة السياسية السائده ، وعلى درجة الألتزام الدستورى ، والألتزام بالشرعية السياسية ، اما إذا أنحرف النظام السياسيى عن هذه القواعد ، فإحتمالات التدخل العسكري لحسم ألأمور تكون كبيرة ، وتزداد القناعة لدى العسكر أنهم الأجدر بالحكم من نخبة سياسية فاسده ، تحتكر الحكم وتقتصره على فئة واحده . ويترتب على هذا ألأعتقاد الدور الذي يقوم به الجيش كدور معارض للنظام السياسي ، أو كدور حارس للنظام ، او الدور المباشر في الحكم .أما عن عن علاقة حكم العسكر بالديموقراطية ينبع أساسا من قاعدة أن العسكر ليس وظيفتهم الحكم والسلطة ، وأن ألأساس في الحكم هو للسلطة السياسية المدنية التي تأتى عن طريق ألأنتخاب او الرضى والقبول الشعبى ، وذلك أستنادا إلى أسس الشرعية السياسية التي قد تتباين من نظام الي آخر ، وإن طغت في ألآونة ألأخيرة على الشرعية العقلانية التي تقوم على الرشادة في الحكم ، وعلى الأبتعاد عن الشخصانية في الحكم . وتنبع أيضا من كون القيم العسكرية تقوم على الطاعة وألأنصياع للأوامر وهو ما يتعارض مع القيم الديموقراطية التي تقوم على الشراكة السياسية ، وعلى نبذ العنف في أدارة السلطة ، ومعارضة أسلوب ألأنقلابات العسكرية كوسيلة للوصول للحكم . المعضلة ليست في دور المؤسسة العسكرية ، بل في طبيعة النظام السياسيى ودرجة ديموقراطيته ، وهذا ما ينبغي التركيز عليه في أي ثورة كما هو الحال في مصر او تونس . أكاديمى وكاتب عربى drnagish@gmail.com