في صباح أحد أيام عملي العيادي, استقبلت مكالمة تليفونية من والدة طفلة .. كان صوت السيدة يبدو مضطرباً ويوحي بأنها تعيش ظروفاً نفسية صعبة, قالت لي بأن ابنتها تدرس في الصف الرابع الابتدائي .. فجأة أصبحت ملتصقة بها ولا تستطيع أن تقبل فراقها للحظات .. أصبحت ترفض النوم في سريرها, وتأتي لسرير والديها لتنام فيه .. معظم الليل ترتعد خوفاً وتتحدث بشكل مخيف عن خيالات وكأن أحد ما سيقبض روحها وهي تتصبب عرقاً.في الفترة الأخيرة أصبحت تعاني من آلام في المعدة وفي القدمين, وتتبول علي نفسها مع أنها قد تعلمت ضبط نفسها في سن الثالثة وترفض الذهاب للمدرسة .. كل ذلك حدث في فترة الأسبوعين الأخيرين فقط.كالعادة تم التنسيق لموعد مع والدة الطفلة لإحضارها للعيادة, وحسب النظام المعتاد في العمل الإكلينيكي قمت بجمع ما أمكن من معلومات عن الطفلة منذ بداية الحمل وحتى يوم حضور الطفلة للعيادة وعن العلاقات الأسرية وما إذا كانت تعاني من مشكلة عضوية, وما إذا كانت قد عرضت قبل ذلك علي أخصائي أو طبيب نفسي .. وهل تعرضت الطفلة لازمة أو لصدمة نفسية في الفترة الأخيرة .. كميلاد طفل جديد في الأسرة أو فقدان .. ولكن لم تذكر آلام أو الطفلة شيئا يدلل علي مشكلة حيث أن العلاقات جيدة والأمور المدرسية تسير علي ما يرام إلا أن شيئاً هاماً كان قد حدث متزامن مع بدء المشكلة عند الطفلة .. حيث قامت معلمة التربية الدينية ضمن حصة الدين بشرح مفصل حول عذاب القبر والجنة والنار ومصير من يشرك بالله وكيف حدود الله علي من أشرك بالله .. وبعد الشرح وفي الحصة الثالثة .. اصطحبت الطالبات لغرفة المختبر وهناك قامت بعرض فيلم حول المقاومة في العراق وكيف تقيم حكم الله في المشركين .. كانت المشاهد دموية وصادمة للأطفال لدرجة أنهم لم يحتملوا ذلك وأخذوا بالصراخ.هذا حدث أمام ناظري الطفلة وكأنه كابوس مخيف .. لم تحتمل ذلك, فلجأت للعديد من الأعراض المرضية لتعبر بها عن حجم الخوف والمعاناة التي خلفته لها هذه المعلمة والتي يبدو أنها وبحسن نية كانت تعتقد بأنها تعلم هؤلاء الأطفال الدين الإسلامي.من المؤكد بان هذا العمل لم يكن ضمن المنهاج المدرسي المقرر علي طلاب الصف الرابع الابتدائي ولكنه اجتهاد شخصي من المعلمة التي لم تكلف نفسها للتساؤل ما إذا كان ما قامت بفعله مناسباً للأطفال في هذا السن .. وإذا ما كان سيؤثر عليهم نفسياً ؟؟!وهنا لا بد من أن أتساءل .. !! هل يجوز لهذه المربية أن تقوم بذلك وهي تفتقر لأبسط مبادئ تعليم الأطفال ولا تعي ما تقول ولا ما تفعل .. ومدى تأثيره على الأطفال ؟!انه لمن المؤسف حقاً أن يقوم بعض المعلمين ودون متابعة من إدارة المدرسة باتخاذ الترهيب منهجاً لتعليم الدين الإسلامي وهو دين السماحة في مبادئه ومفاهيمه ولعل الحديث عن الموت بأشكاله وما بعده وطريقة شرحه للصغار قد يختلف تأثيره ووقعه تبعا للسامع, عمره, خلفيته الاجتماعية والتربوية ذلك دون الخوض في التفاصيل .. إلا انه من غير المختلف عليه بأنه لا حاجة لنقاش هذا الموضوع مع الأطفال قي السن المبكرة.وحتى فيما يتعلق بوفاة عزيز .. فلقد ذكر الخبراء النفسيين بأنه من الممكن اصطحاب الأطفال في عملية الدفن ولكن شرك أن يكونوا بصحبة شخص يستطيع أن يكون داعماً لهم وتربطه بهم علاقة حميمة .. وكذلك من الممكن أن يشارك في مراسيم العزاء أيضاً وغير ذلك من التفاصيل. ولكن كل ذلك يتم في جو داعم نفسياً له لكي لا يعاني من مشاكل نفسية فيما بعد .. وهذا يجعل الأمر أقل وطأة على الطفل مما لو ابعد عن المكان وفوجئ بغياب عزيز عليه وقدمت له معلومات خاطئة, أما مشاهدة القتل فهذا تعريض مباشر للطفل لصدمة نفسية والذي بدوره قد يطور أعراض لاضطراب ما بعد الصدمة بعد ذلك إذا استمرت مجموعة الأعراض لأكثر من شهر.إنني ومع احترامي الشديد لمعلمينا الأفاضل ولما يقومون به من واجب وطني اتجاه أطفالهم إلا انه يتوجب عليهم أن ينتبهوا للآثار السلبية لاستخدام الترهيب والخوف مع الأطفال الذين لا يملكون القدرة الكاملة للتعامل مع الأحداث الصادمة والمخيفة .. كما أن استخدام التخويف كوسيلة لتعليم الأطفال يضر ضرراً فادحاُ بهم ويزرع الرعب في نفوسهم, ولعل المعلمة الفاضلة هنا لو تعلم الضرر الذي سيحدث للطالبات لما قامت به, حيث أن الدين الإسلامي نفسه لا يسمح بتخويف الأطفال وترويعهم بل يدفع بهم ليكونوا جيلاً قوياُ معافى نفسياً وجسدياً جيلاً يؤمن بالله الواحد برغبة واقتناع كامل دون خوف أو ترهيب ؟!. أخصائي نفسي ببرنامج غزة للصحة النفسية