المبدأالسياسي الذي أكدته ثورة مصر والذى يشكل أساس وجوهر أي سلطة ونظام حكم أيا كان شكله وأساس شرعيته ، إن الشعب يريد إسقاط النظام . هذه العبارة ليست مجرد شعار يردده المتظاهرون في ميدان التحرير ، والذى قد نسمعه بعد ذلك في عاصمة عربية أخرى ، بل مبدا أساسى يؤكد منذ البداية كأحد أهم مبادئ الحكم الديموقراطى الذى يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطة ، وان هذه السلطة مفوضة من قبل الشعب للحاكم ، وأن هذا التفويض مرهون بصلاحية ورشادة الحكم والحاكم ، ومدى قدرته على الأستجابة مع طموحات الشعب وتوقعاته المتزايدة ، وأن هذه المطالب ليست مجرد مطالب مادية فقط ، بل هي في جوهرها سياسية وتتعلق بالسلطة نفسها . الحاكم ليس من حقه إن يحكم بمعزل عن شعبه ، وليس من حقه إن يستأثر بالسلطة له ولعائلته ، أو أن يحاول إن يجعلها وكأنها تفويض كامل غير قابل للتنازل ، فهذا يتنافى مع مضمون هذا المبدأ ، فالذى لم يدركه الحاكم انه عندما يستـاثر بالسلطة ألي الأبد ، أو عندما يحصر السلطة في نفسه او عائلته ، او في شريحة أو حفنة قليلة من المستفيدين من هذا الحكم ، إنما هو في الواقع يسلب الحق الشعبى في السلطة ، ويحرم الناس من سلطة هي في الأصل ملك لهم . وبدلا من إن يقيم الحاكم تحالف بينه وبين عموم الشعب ، يقيم تحالفا شاذا من الطبقة الرأسمالية الطفيلية من رجال ألأعمال ، ومن حزب حاكم وحيد ، وهذا التحالف يقوم على أمرين اساسيين ، ألأول أحتكار وسائل القمع وألأكراه المشروعة وتحويلها إلى غير مشروعة ، وألأمر الثاني أحتكار وسائل ومصادر الثروة والدخل ، وحرمان بقية الشعب من هذه المصادر من الدخل القومى ، والتي تعتبر أيضا ملكا للشعب . وفى كل النظم السياسية في العالم وعبر كل مراحلها المختلفة القوة والثروة القومية هي ملك للشعب وليس لحاكم أو حفنة قليلة تساهم في استمرار الحاكم في حكمه ، ففى أي نظام حكم يخلق الحاكم قوى مسانده له ، وبدلا من تكون هذه القوى المسانده هي الشعب ، تتحول هذه القاعدة الشعبية وكأنها معارضه وغير مؤيده للحاكم ، وبالتالي تخلق حالة من العداوة تكبر رويدا رويدا مع استمرار بقاء الحاكم في الحكم ، الذي من شأنه إن يعمق من حالة الحقد والعداوة والكراهية على كل ما له علاقة بالحاكم ، وممن حوله من المستفيدين . وهذه الظاهرة هي التي تتسبب في أفشاء ظاهرة الفساد السياسي والمالى وألأمنى ، وتنعكس سلبا على منظومة القيم ، التي قد تحول اللمواطنيين إلى متسولين ، وباحثين عن لقمة عيشهم بكل الوسائل. واساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم هو عقد اجتماعى كما تحدث عنه أنصار نظرية العقد ألأجتماعى وعلى رأسهم جون لوك صاحب نظرية الحقوق الطبيعية للمحكومين والذى أعطى الشعب حق الثورة على الحاكم ، والمفكر الفرنسى روسو ونظريته في الأرادة العامة والتي أساسها أن الشعب هو مصدر السلطة ، وهذا هو المبدا الذي ترتكز عليه كل الدساتير الديموقراطية. والسؤال ما هو طبيعة هذا العقد في أنظمة الحكم ؟ في بداية الحكم يقوم الحاكم بعقد هذا العقد مع شعبه كوسيلة للوصول إلى السلطة والحكم ، ثم بعد إن يثبت حكمه يقوم بنقض كل أسس وشروط هذا العقد بسلب السلطة والحكم ، وعليه فإن شعار الشعب يريد اسقاط نظام الحكم هو محاولة من الشعب لأسترداد هذه السلطة وعودتها إلى طبيعتها أو مرحلتها ألأولى . وهذا المبدأ قد يتم التعبير عنه بوسائل وطرق متعدده ، ففى حالة النظم السياسية المستقرة ، والتي يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم عقد أجتماعى ملزم للطرفين تكون وسائل التغيير عبر ألأنتخابات الدورية ،والمسائلة الشعبية والبرلمانية ، والحاكم قد يفقد الحكم في أوقات نادرة بتهمة الخيانة العظمى ، وهو ألأساءة لتفويض الحكم ، أما في الدول والتي نحن جزء منها والتي تنتفى فيها هذه الوسائل الديموقراطية ، ويصبح العقد من طرف واحد ، يصبح من حق الشعب القيام بالثورة على الحاكم لتغييره . وفى مثل هذه حالات لا بد أن تسود حالة من العنف والتخريب كما رأينا في الحالة المصرية ، لأنه ونظرا لغياب قنوات التعبير والتغيير الديموقراطى ، تتحول المواجهة إلى نظام حكم يدافع عن حكمه بكل الوسائل المتاحة لديه من قمع وقوة قسرية ووسائل إكراه ، والشعب الذي قد يلجأ إلى التعبير العنيف أحيانا لتحقيق مطالبه ، وهذه الحالة قد تطول أو تقصر إلى أن تنتهى في النهاية بإنتصار إرادة الشعب الحتمية ، لأن هذا جوهر قانون التغيير الحتمى ، وهو ما لم يدركه الحاكم ، ومن ألأمور ألأخرى التي لم يدركها الحاكم أن الشعب الذي يحكمه عند حكمه ليس هو نفس الشعب الذي يصبح في السنوات ألأخيرة من حكمه ، فالتحولات والتغيرات الداخلية والدولية في بيئة النظام السياسى ،او نظام الحكم لن تعمل لصالح الحاكم ، وهكذا تتطور ألأمور بطريقة يتغافلها ويتجاهلها الحكم ألي أن تأتى لحظة ألأنفجار ، وليس بالضرورة أن تكون هذه اللحظة عامة او شامله ، فقد تكون مجرد بيان صغير ، والسبب في ذلك إن كل الشعب يكون قد وصل إلى لحظة الثورة ، وكل ما يلزم هو لحظة تفجير هذا المكنون الذي كبر داخل قلوب كل المواطنيين. وهذا ما حدث في مصر أو تونس أو غيرها من الدول العربية المتوقعة للتغيرات نفسها . والسؤال ما هو المطلوب ؟ المطلوب ببساطة شديده هو عقد حكم جديد بين الشعب وبين الحاكم ، واساس هذا العقد أعادة صياغة الشرعية الدستورية ، التي تحدد مواصفات وشروط الحاكم ، وفترة التفويض للحكم ، وتحديد صلاحية وشروط الحكم الرشيد . هذا هو أساس وجوهر كل المطالب الشعبية ، وهذا ما يفسر لنا مبدا الشعب يريد اسقاط النظام ، بمعنى أن الشعب يريد إن يحدد أسس وماهية نظام الحكم الذي يريده ، ويترتب على هذا المبدا أن يعيد الشعب شكل نظام الحكم الذي يريده ، هل هو النظام الرئاسى بمحددات وقيود معينه ، مع سلطة تشريعية حقيقية ، او نظاما برلمانيا يجعل السلطة في يد الشعب من خلال برلمان ينتخبه الشعب عبر أنتخابات حقيقية ونزيهة وشفافة ، وبهذا النظام نضمن تداول حقيقى للسلطة ، وتداول وتبادل بين ألأجيال في ألأدورا السياسية ، ولا يجعل الحكم محتكرا من قبل جيل واحد فقط . هذا هو العقد ألأجتماعى الجديد الذي تطلبه ثورات الشعوب التي نشهدها ونعيشها مع مصر ، والتي ستلقى بظلالها على المنطقة بأسرها . هذه العقد الذي لم يدركه الحكام ، وهو الذي يفسر لنا تعثر عملية ألأصلاح والتطور الديموقراطى . وبناءا عليه فإن أعظم إنجازات الثورة المصرية هي ترسيخ هذا المبدأ الذي من شانه إن يعيد الثقة بين المحكومين والحاكمين ، ومن شأنه ان يوفر كل الآليات والوسائل للرقابة الشعبية في المحاسبة والمسائلة . واختم بقولة روسو القوة لا تصنع الحق ، وان الحق هو الذي يصنع القوة . وهذا درس آخر من دروس الحكم على الحكام وأنظمة الحكم أيا كان مصدر الشرعية فيها أن تدرك مغزى ومضمون مبدأ الشعب يريد اسقاط النظام. استاذ العلوم السياسية غزة. drnagish@gmail.com