ويبقى الجيش المصري هو مفصل الأحداث، بات طرفاً أساسياً في معادلة مستقبل مصر، هذا الجيش الذي يعتبر العاشر من حيث القوى البشرية على صعيد العالم، والذي "صدر" لمصر كل رؤسائها منذ العام 1952، محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، محمد حسني مبارك، ونائب الرئيس عمر سليمان، ورئيس الحكومة أحمد شفيق، بات عنواناً أساسياً في الأحداث الجارية الآن في جمهورية مصر العربية، وهذا الجيش، لم يكتف بتصدير الرؤساء، بل ايضاً صدر رؤساء مجلس ادارة شركات القطاع العام، وحتى رؤساء أندية الكرة الشهيرة لسنوات طويلة، وغاب عن الصورة في الرئاسات الاخيرة، الا في خوضه الحروب ضد اسرائيل، هذا الجيش، وخلافاً لكل ما يقال من انه لم يوجه سلاحه للمواطنين، فإنه تدخل لقمع مظاهرات ضد الغلاء العام 1977، وتم استدعاؤه العام 1986، لقمع قوى الأمن التي كانت تطالب بدفع متأخرات رواتبها، ولم تكن هناك حاجة لاستدعائه في السنوات الاخيرة بعد أن اشتد عود أجهزة المخابرات وقوى الأمن وقامت بالدور المطلوب من قبل النظام السياسي.الجيش المصري، غاب في الايام الاولى للأحداث، ويقال بهذا الصدد، ان هناك خلافاً، بين قادة الجيش فيما بينهم، وبين قيادته والرئيس مبارك حول الإجابة على سؤال: ما العمل، كما يقال ان عودة رئيس الأركان المصري في بداية الاحداث، عزز من انقسام الآراء داخل قادة الجيش تجاه الازمة، ويقال ايضاً، ان الخلاف مع النظام، شجع على امكانية تنحية قائد الجيش طنطاوي لصالح رئيس الاركان الاكثر قرباً من النظام، وهذا ما يفسر احتلال الجيش للمواقع التي أخلتها قوى الأمن التي تضعضعت بعد أن جابهت المتظاهرين وتم الاستيلاء وحرق بعض معداتها واحراق مراكزها، علماً ان ذلك تم نتيجة لأوامر متأخرة، بعدم اطلاق النار بأي حال من الاحوال على المتظاهرين، الامر الذي ادى في النهاية الى انسحاب هذه القوات من مسارح الاحداث.ويقال ايضاً، ان نزول قائد الجيش، لتفقد قواته بالقرب من مبنى التلفزيون "ماسبيرو" على كورنيش النيل، ومصافحته لبعض جنوده وبعض المواطنين، كان إعلاناً ليس عن حضور الجيش بقوة في صناعة الاحداث فحسب، بل شكلاً من الاعلان عن موقف ازاء الاحداث، خاصة بعدما اعلن الجيش ان تحرك المظاهرات والاحتجاجات أمر مشروع وان الجيش "لن ولم" يتصدى لها، سلوك الجيش هذا، جعله اقرب الى المتظاهرين من نظام الحكم، رغم انه ما زال في اطار الشرعية والدستور.الجيش المصري لم يكن في اي يوم من الايام، بعيداً عن السياسة ونظام الحكم، رغم انه بقي معظم الوقت في ثكناته، الا انه استدعى لمهام سياسية من خلال قادته وأفراده لدى أحداث معينة، اضافة الى دوره في رئاسة المؤسسات الاقتصادية، ومعظم المحافظين هم من متقاعدي الجيش من كبار الضباط وهم يديرون عملاً سياسياً في محافظاتهم اضافة الى دورهم الاداري، علماً ان المحافظين، وفقاً للقانون، لهم دور بارز في التنسيق مع أجهزة الأمن وقوات الشرطة في محافظاتهم.موقف الجيش من الاحداث، هو ما يفسر تلكؤ النظام في اتخاذ خطوات جدية في بداية الاحداث، الرئيس ظل صامتاً لأيام قبل ان يعين نائباً له، ورئيساً للحكومة، وحتى عند تعيين رئيس الحكومة، لم يمنح كتاب التكليف الا في اليوم التالي، رغم سخونة الاحداث، ويقال بهذا الصدد، ان الخلاف مع الجيش كان السبب الرئيس وراء هذا التأخير.ويلاحظ، كما يقال، ان نزول قائد الجيش الى الشارع لم يكن مجرد أوامر وتفقد القوات المسلحة على كورنيش النيل وبالقرب من مسرح الاحداث المركزي في ميدان التحرير، خاصة بعد ان ترافق ذلك مع ظهور للطيران الحربي والطوافات الحربية، البعض فهم هذا وكأنه استعراض للقوة من قبل القوى الجوية ضد المتظاهرين، وللعلم، فإن رئيس الحكومة الحالي هو قائد سابق لهذه القوات، لكن البعض فهم من ذلك ان هذه القوات تدعم قائد الجيش في موقفه المعلن، الا ان آخرين ذهبوا الى ابعد من ذلك، بالقول ان القوات الجوية تتمرد بهذا الاستعراض للقوة على قائد الجيش، ما يشير الى انقسام داخل القوات المسلحة ازاء كيفية التعامل مع الازمة!وعندما يقال ان الجيش المصري بعيد عن السياسة، فإن هذا القول تعوزه البراهين، اذ ان هذا "الابتعاد" لم يكن وليد نظرة تفصل بين دوره والنظام السياسي، وعندما لم تكن هناك حاجة لترجمة هذا الدور على الارض، لم يكن بوسعه ان يظهر على المشهد السياسي، الانسجام الكامل بين النظام والجيش، لم يفسح المجال أمام ظهور دور سياسي معلن، كون الامر لم يكن بحاجة الى مثل هذا الظهور.وموقف الجيش المعلن حالياً، وحديثه عن "مشروعية التحرك الشعبي" هو دور سياسي يلعبه الجيش بامتياز، ولو لم يكن للجيش مثل هذا الدور، لتجاهل مثل هذه الاشارة، الجهة المعنية بمثل هذا الاعلان، جهة سيادية مدنية، وليس من حق الجيش في حال قيامه بدوره الأمني والدفاعي، تقييم حركة الشارع، ومنح مشروعية للتحرك من عدمها، عليه القيام بدوره وفقاً لمتطلبات النظام السياسي وفقاً للدستور المعمول به الآن، لهذا كله، نقول، انه من الخطأ النظر للجيش المصري وكأنه دخل فجأة الى عمق الاحداث ليقوم بدوره السياسي، وما يقوم به الآن وسط الاحداث، على المسرح الحقيقي للأزمة لا يشير الا لهذا الدور الذي نعتقد انه دور حاسم، سواء كان بجانب النظام أم بجانب التحرك الشعبي، هذا الدور، من المنتظر أن يتزايد في الظهور الى العلن في المستقبل، اكثر من اي وقت مضى، كما اعتقد ان القوى الكبرى، الولايات المتحدة خصوصاً، اكثر اهتماماً بهذا الدور السياسي للجيش المصري، وربما ستبلور هذه التجربة في كيفية التعامل مع جيوش الأنظمة التي من المتوقع ان تشهد أحداثاً مماثلة.www.hanihabib.nethanihabib272@hotmail.com