خبر : رحيل رجلٍ عظيم : جون جينج كما عرفته..د. جهاد صالح

الثلاثاء 01 فبراير 2011 07:00 م / بتوقيت القدس +2GMT
رحيل رجلٍ عظيم : جون جينج كما عرفته..د. جهاد صالح



لم يكن يخطر ببال أحدٍ أن يأتي هذا القرار المفاجئ بانتقال رجل المهمات الصعبة السيد جون جينج من غزة إلى نيويورك.. لقد أضحى السيد جينج - مدير عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأنروا) بغزة - جزءاً من حياتنا اليومية؛ فإطلالته غدت ضمن المشهد الإعلامي والإنساني الفلسطيني، الذي سيؤثر غيابه – بدون شك - كثيراً علينا.إن انتقاله إلى الولايات المتحدة ليكون على رأس الأنشطة الإنسانية التي ترعاها المؤسسة الأممية حول العالم، هو موقع يستحق أمانة العمل فيه، وهو كسبٌ للنشاط والعمل الإنساني، ولن تبتعد قضية فلسطين – بالطبع – عن مساحة مهامه ومتابعته واهتماماته.لا شك أن السيد جون جينج ومنذ دخل الساحة الفلسطينية قام بالعديد من التحركات والفعاليات والجهود التي لم تكن مسبوقة بهذا الشكل من القوة والجرأة والتأثير.. فالاهتمام بتحسين الجانب التعليمي لطلاب مدارس الأنروا الذين شهدوا تراجعاً أساء لمستوى تحصيلهم العلمي فيما سبق، حيث كانت الظروف السياسية والحالة المجتمعية تحت الاحتلال قد أسهمت - بشكل عام - في تدني مستوياتهم العلمية، وجعلت البعض منهم يفكر - مبكراً - في ترك الدراسة والبحث عن حرفة تعتاش منها عائلته.لقد أحيا السيد جون الأمل من جديد في المسيرة التعليمية، وأعطى الاهتمام لتطويرها والإرتقاء بها، والذي انعكست نتائجه بشكل إيجابي في الكثير من حالات التميز والإبداع، التي يستحق عليها كل الشكر والثناء.المعسكرات الصيفية:لقد كانت المعسكرات الصيفية هي أحد المرتكزات لتحسين مستوى الطلاب وتقدمهم، وكان لها بُعداً آخر وهو الاهتمام برفع معنويات الطلاب، حيث تعرض الكثير منهم لظروف صعبة جراء الاحتلال والحصار، وكان لذلك تأثير كبير على حالتهم النفسية، فكانت المعسكرات الترفيهية وسيلة للتخفيف من تأثير هذه الصدمات النفسية المتكررة على حياتهم ومستقبلهم.لم يفهم – للأسف- الكثير من ولاة أمر هذا الوطن هذه الدوافع والمعطيات الإنسانية التي جعلت السيد جون يمنح هؤلاء الأطفال كل هذا الاهتمام، وهذا المستوى من الحيوية والتفاني والإخلاص.إن الذي يعرف تاريخ ونشأة هذا الرجل الذي ولد وتربى في قرية صغيرة في ايرلندا، وفي ظل ظروف لا تختلف كثيراً عن واقع الحالة الفلسطينية، حيث كانت بلاده تحت الاحتلال البريطاني لمدة تجاوزت ثمانمائة عام، ذاق فيها أهل ايرلندا كل مرارات الاحتلال البريطاني وقسوته.. عاش فقيراً، ولكنه حرص منذ أن وعت عينيه على واقع بلاده أن يكب على التعليم باعتباره طريق الخلاص له ولعائلته.. وفعلاً؛ من رحم هذه المعاناة جاء هذا التفوق والتميز في حياته المهنية، وكان الأمر كما قال الأديب الفرنسي لامارتين: "لا شيء يجعلنا عظماء غير ألمٍ عظيم"، ليرتقي في درجته العلمية والعملية التي فتحت له أبواب الوظيفة في الأمم المتحدة، حيث كان على رأس عدة مهمات إنسانية كبرى في البوسنة ورواندا، قبل أن يحط رحاله في الأراضي الفلسطينية المحتلة.إن متابعتي لمسيرة الرجل، ولقوة المنطق الذي يتحدث به ضد ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، والدفاع عن الحق الفلسطيني والموقف الفلسطيني العادل في المحافل الدولية، وأمام وسائل الإعلام المحلية والعالمية، جعلتني أُكبر هذا الرجل، وأكنُّ له كل التقدير والاحترام.سفير فوق العادة:لقد تعرض السيد جون كينج لانتقادات واسعة من جهات صهيونية، وصدرت دراسات من مؤسسات أمريكية يهودية تشكك في عمله، وتتهم وكالة الأنروا بإطالة عمر قضية اللاجئين، وإنه كان يتوجب على الوكالة التسريع بإنهاء ظاهرة اللاجئين، لأن بقاء هذه الظاهرة يعني استمرار تحميل إسرائيل والعالم المسؤولية القانونية والأخلاقية عن معاناتهم.كان السيد جون يتحرك عبر العواصم الغربية لشرح معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، ويستعرض بأرقام وإحصائيات تداعيات الحصار الظالم المفروض عليهم.. عمل الرجل على تشجيع السياسيين والبرلمانيين الغربيين للقدوم إلى غزة، ومشاهدة آثار الدمار الذي خلّفه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في ديسمبر 2008، وكذلك أبعاد الحصار على الحياة المجتمعية؛ الصحية والتعليمية والإنسانية بأشكالها الكارثية المختلفة.. واليوم يتحدث الكثير من هؤلاء السياسيين والبرلمانيين الذين زاروا القطاع بنفس اللغة والوعي الذي يتحدث به السيد جون كينج، لأنهم تحرروا - من خلال هذه المشاهدات التي وقعت عليها عيونهم - من تضليل ماكينة الدعاية الصهيونية وألاعيبها، والتي تحاول أن تعطي الانطباع دائماً بأن أهل قطاع غزة بخير، وأنه ليس هناك أية أزمات إنسانية بالقطاع.لقد عملت إسرائيل على تعقيد عملية وصول الكثير من النشطاء الأوروبيين إلى قطاع غزة عبر معبر إيرز، واختلقت ذرائع شتى لقطع الطريق أمام وصولهم إليها، ولكنّ الوكالة ممثلة بالسيد جون جينج فتحت لهم الأبواب عبر بوابات أخرى، للوقوف على حقيقة ما يجري داخل القطاع، وخاصة في المخيمات والمدارس والعيادات الصحية التابعة لها.. كانت هذه الشهادات لهؤلاء الزائرين هي التي تفضح أكاذيب إسرائيل وإدعاءاتها بتخفيف الحصار عن قطاع غزة.. لن ننسى - بالطبع - دعواتك للمجتمع الدولي وأصحاب الضمائر الحيّة للقدوم إلى غزة عبر البحر لكسر الحصار عنها.لقد استهدفك الصهاينة، وقد نجحوا في النيل منك، وللأسف أسهم بعض الموتورين - بأقلامهم - في التحريض ضدك والإساءة إليك.الوفود الطلابية:لقد تابعت أنشطة السيد جون جينج في المحافل الدولية في لندن وبروكسل ونيويورك وواشنطن، والرجل له مهمة واحدة جنّد لها كل طاقته وسعى من أجلها بكل همته، ألا وهي أن يعيش هذا الشعب بكرامته، وأن يتلقى أبناءه تعليمهم في ظروف بعيدة عن ضغوطات الاحتلال والحصار، وأن يتلقوا الرعاية الصحيّة التي تليق بهم، وأن ينهضوا بحياتهم ومستقبل أجيالهم إلى أن يتحقق حلمهم في إقامة دولتهم الحرة والمستقلة.لقد عمل السيد جون جينج خلال هذه السنوات الخمسة بكل همّة ونشاط، وكان للفلسطينيين بمثابة سفيرهم الأمين الذي حمل همومهم ومعاناتهم إلى كبريات العواصم الغربية من خلال مشاركته المستمرة في المؤتمرات والملتقيات السياسية المنعقدة هناك، وعبر وفود التلاميذ الذين سافروا إلى تلك البلاد ليقولوا للعالم الغربي نحن ضحايا انحيازكم إلى دولة الكيان الصهيوني وتحالفكم معها.. لقد كنتم تحدثوننا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنكم تتجاوزون هذه المبادئ، فنحن كل يوم نتعرض للعدوان الإسرائيلي وللاجتياحات التي تمثل إنتهاكات صارخة لكل القيم الإنسانية وللقانون الدولي، ولكنكم تلتزمون الصمت تجاهها وتمارسون سياسة الكيل بمكيالين.لقد كانت هذه الوفود من الطلاب والطالبات من أبناء قطاع غزة ذات تأثير كبير على الأوساط السياسية والإعلامية والمنظمات الإنسانية في الغرب، وقد يرجع بعض هذا التحول والتعاطف في الرأي العام الغربي مع القضية الفلسطينية لهؤلاء الأطفال، الذين كانت دموع بعضهم - وهو يروي مأساة وطنه - لها تأثير السحر على مشاعر وأحاسيس كل من قابلوهم، ولقد منحتني سنوات وجودي في أمريكا شيئاً من الإدراك بأهمية وقيمة مثل هذه الزيارات للمؤسسات البرلمانية والانسانية في الغرب.للسيد جون جينج - الذي كانت لي فرصة معرفته عن قرب، وتداول الأحاديث السياسية والإنسانية معه - أقول: إننا برحيله عن غزة سوف نفقد صديقاً عزيزاً لفلسطين وأهلها، ورجلاً عمل بصدق وبحسٍ إنسانيّ راقٍ من أجل أطفال فلسطين، وصاحب القلب الكبير الذي طالما مدّ يد المساعدة للكثيرين، الذين كانت الوظيفة لهم بمثابة طوق النجاة للخروج من نفق الفقر والحاجة والعوز.لا شك أن غزة سوف تفتقدك كثيراً، وستغادرنا "مأسوفاً عليك"، بل إن هناك من سيبكيك من أطفال فلسطين عندما يأتي الصيف القادم بمشهدٍ تغيب منه صورتك وإبداعاتك، ولا يجد الأطفال من يأتي لهم بالفكرة التي يسجلون من خلالها كسباً عالمياً في كتاب جينس للأرقام القياسية.لن نقول وداعاً يا جون جينج، بل إلى لقاء.. أيها الايرلندي الجريء نودّعك بكل المحبة والتقدير والعرفان..لن تغيب عنّا مواقفك المنددة دائماً بالاحتلال والحصار، ولن ننسى كلماتك دفاعاً عن غزة وأهلها، وعن احترامك للحكومة الشرعية فيها.سيذكرك تلاميذ المدارس في الصباح وفي المساء وهم يشاهدون تلك اللوحات الجميلة على جدران مدارسهم، تذكّرهم بقضيتهم، وتشحذ هممهم بالمعالي، وتدعوهم للاجتهاد والتفوق.لن ترحل عنّا بعيداً يا جون، لأن لك على هذه الأرض المباركة بصماتُ خيرٍ وأصدقاء كثير. وختاماً نقول: يمضي الرجال ويبقى النهج والأثر.