تقديم:إن الأحداث التي فاجأتنا في تونس ومصر والتي كان يصعب على أكثر المحللين السياسيين فطنة التنبؤ بها، ليس من جهة وقوعها ولكن من حيث التوقيت والبداية، تدعونا اليوم لفتح باب التكهنات وطرح العديد من التساؤلات.نعم، كان هناك حديث يدور عن وجود احتقان في الشارع العربي وانسداد سياسي يؤذن بالانفجار، ولكن التوقعات كانت تذهب إلى بلدان مثل الجزائر واليمن والأردن باعتبار زخم الحضور الإسلامي المؤطر فيها على شكل حركات وأحزاب سياسية ومؤسسات أهلية.. وإذا استثنينا الدول الخليجية التي تتمتع بحالة من الاستقرار والازدهار، فإن باقي البلدان العربية – بشكل عام - مرشحة جميعها لحدوث انهيارات سياسية فيها، حيث إن معظمها مكبلة بأثقال القهر والاستبداد السياسي وسطوة السلطة، التي لم تسمح بأية مساحات واسعة لتحركات المعارضة، باستثناء أشكال رمزية من التعبير عن حالة الغضب لبعض قياديي الأحزاب السياسية والدينية، وهي أوضاع يبقى إيقاعها مضبوط – نسبياً - تحت وطأة السيطرة الأمنية لأجهزة الدولة.جاءت تونس - آخر بلد عربي كان مرشحاً للانفجار– ليضع لبنة الاحتجاج على الظلم والدكتاتورية وتسلط الحزب الحاكم، وليفتح المجال أمام الشارع العربي الغاضب للتفكير والتأمل والتطلع بأملٍ لتحقيق الإصلاح والتغيير المنشود.لاشك بأن نجاح الحراك الشعبي في تونس بإحداث التغيير وفرض عملية الإصلاح السياسي، سيكون ملهماً لتحركات أوسع لن تكون مصر وحدها المرشحة لها، بل إن بلداناً عربية أخرى – عملاً بنظرية الدومينو - ستعقبها.تساؤلات تفرضها الأحداث:السؤال الذي يدور - الآن - على ألسنة الكثير من الإسلاميين في العالم العربي: أين موقعهم مما جرى ويجري؟ وما هو دورهم في كل ما يحدث؟ هل هم على مستوى الحدث ولديهم الأهلية للعب دور البديل للنظم الدكتاتورية القائمة أم أن نماذجهم - غير المشجعة - في السودان وفلسطين ستحرمهم امتلاك مثل هذه الأفضلية لقيادة الشارع العربي، وأن حظوظهم لن تمنحهم أكثر من أن يكونوا جزءاً من التركيبة السياسية وليس رأساً لها؟لا شك أننا اليوم أمام نموذجين خارج ساحتنا العربية قدّما حالة إبداع وتميز وهما تركيا وإيران، وربما يعتبر النموذج التركي هو الأبرز باعتبار أنه جاء من تحت المظلة السنّية الواسعة، التي عليها حال الأكثرية العربية.. ولذلك، فإن الاستشهاد به أقرب للواقعية وأصدق للعملية التحليلية، من حيث إن الساحة التركية هي كذلك أشبه في تركيبتها السياسية بالساحات العربية من ناحية التنافس والصراع القائم بين الإسلاميين والعلمانيين، والذي تمدد على فضاء ستة عقود تعرض فيها الإسلاميون لشتى أنواع التعذيب وصنوف القمع والإهانة.ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين كانت خلال العقد الماضي أحسن حالاً، لأن النظم الدكتاتورية احتضنت زبانيتها وحُماة عروشها وتجاهلت كل النخب الفكرية، الأمر الذي جعل الإسلاميين والعلمانيين يجدون أنفسهم في مربع "كلنا في الهمِّ شرقُ"، ودفع هذا الحال بهم للبحث عن تحالفات سياسية، وعناوين نضالية مشتركة لمعارضة النظام، وقد شاهدنا هذه الظاهرة في مصر بشكل واضح وصريح من خلال حركة كفاية.الإسلاميون ومحاولة إمساك الخطام:الإسلاميون اليوم - وبعد غياب طويل عن ساحة العمل السياسي - يحاولون العودة من جديد إلى قيادة الشارع، ولكن الحقيقة التي ظهرت تجلياتها في الأحداث الأخيرة، أن هذا الشارع مكتظ بجيل شبابي نشأ وترعرع بعيداً عن محاضن الإسلاميين والعلمانيين، وينتمي إلى جيل الانترنت، ومرشده هو (Facebook) و(Twitter)..الخ، وأنه لا يمكن لأية عناوين تاريخية القفز فوق مطالبه وانتماءاته التي صنعتها الشبكة العنكبوتية، وبالتالي لابدَّ من الانخراط معه ومشاركته انجازاته.في تونس كان المشهد العام في حركة الاحتجاج هم الشباب، الذين لا توحي شعاراتهم ومطالبهم بأنهم مؤطرين إسلامياً، بل إن الكثير منهم بلا عناوين سياسية أو حزبية.. ومع اقتراب تحقيق الفوز لثورتهم أخذت تظهر وجوه سياسية وأحزاب تسعى – بقصدٍ أو بدون قصد – لقطف الثمرة وتجيير الثورة لصالحها.ربما أدرك الإسلاميون والعلمانيون في تونس أنهم بحاجة إلى العمل معاً لكسب التأييد والدعم والمباركة الخارجية، ولذلك، وجدنا إشارات لدى كل طرف إلى الآخر باعتباره شريك نضالي، خاصة وأن "ابن علي" بظلمه وقهره وتفرده بالسلطة أسهم في تهجير الحالة السياسية إلى الحواضر الغربية، فرأينا الشيخ راشد الغنوشي ممثل المعارضة الإسلامية التونسية يتحدث من قلب العاصمة البريطانية، وتابعنا عبد المنصف المرزوقي يقود المعارضة العلمانية من باريس، وآخرين من واشنطن وبون وجينيف.اليوم الكل مقتنع أن له شريك آخر، وإن كان يخالفه الأيديولوجيا والرؤية السياسية، ولكنه شريك لبناء جدران وطن صدّعته الدكتاتورية المتسلطة، وأن التوافق بينهما - في هذه المرحلة الانتقالية – ضروري، ويستدعي العمل معاً لحماية ما أنجزته الجماهير بدمائها وحناجرها بعد 23 عاماً من الظلم والاضطهاد والاستبداد السياسي.إن المعادلة اليوم - بين الإسلاميين والعلمانيين - هي أن الشراكة السياسية والتوافق الوطني ضرورتان لتحقيق الإصلاح والتغيير، والتسليم بالعملية الديمقراطية لضبط إيقاع المستقبل السياسي؛ فلا احتكار للسلطة لأي حزب وطني أو إسلامي، لأن التفرد بالحكم هو طريق التسلط والاستبداد السياسي، وهذه ظاهرة إنسانية لها مشاهدات تاريخية عربية وإسلامية وغربية، ولذلك قال أساتذة علم الاجتماع السياسي إن "السلطة تحدُّ السلطة"، و"السلطة المطلقة مفسدة مطلقة".اليوم أمام الإسلاميين، الذين سجلوا - خلال العقود الثمانية الماضية - نجاحات محدودة وإخفاقات متعددة أيضاً، أن يضعوا نصب أعينهم النموذج التركي الذي نراه – اليوم - يتصدر المشهد الأبرز للنجاحات الإسلامية في المجال السياسي والاقتصادي والمجتمعي؛ مشهد الابتعاد عن التفرد واحتكار السلطة والتأكيد على وجود الشريك الآخر، مشهد الانفتاح على كل القطاعات الحزبية والطائفية والعرقية بغض النظر عن شكل عباءتها الأيديولوجية.. حيث تمَّ التراضي أن يكون عنوان المسيرة للجميع هو "الديمقراطية وحقوق الإنسان"؛ فالعملية الديمقراطية تسمح بالتعددية السياسية وحرية التعبير والتداول السلمي للسلطة، كما أن القبول بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان تضع الجميع أمام موازين العدل والقسط التي لا تحابي أحداً، وتمنع حدوث التجاوزات وتعاظم الامتيازات، كما أنها تكفل الحرية للجميع؛ فلا اعتقالات على خلفيات سياسية، ولا مظالم مرجعها تغول الأجهزة الأمنية، فالكل أمام القانون سواسية.إن نموذج أردوغان اليوم يعني الاستقرار والأمن والازدهار والفضاء المفتوح على أركان الدنيا الأربع.الأنظار تلاحق تطورات الأحداث في مصر العظيمة:أتمنى أن يعي (الإخوان المسلمون) في مصر المتغيرات الحاصلة، وأن يكونوا جزءاً من نبض الشارع وما يمكن أن تفضي عنه التحولات الحاصلة اليوم في مصر.. إننا نتطلع لمصر العظيمة أن تعود لقيادة الأمة، هكذا كانت عبر تاريخها الطويل، العمود الفقري للعرب والمسلمين؛ إذا عزّت مصر عزَّ العرب، وإذا انتكست كان الضعف والتبعية والهوان.إن من حق الجميع في مصر أن يحلم، وأن يكون لهم تمثيلهم داخل مراكز السلطة والقرار، ولكن المطلوب تحقيق التوازن في العلاقة مع الجميع، وأن يتم النظر إلى الآخرين بعقلية الشريك المعنيّ أيضاً بنهضة مصر، وعظمة دورها القيادي على المستويين الإقليمي والدولي.إن على الإخوان في مصر - وفي غيرها من الدول العربية - أن يفهموا أن الزمن الذي كانوا يتطلعون فيه إلى قيادة الأمة وحدهم قد ولّى، لأن النماذج التي قدّموها في المنطقة لم تكن بمستوى تطلع الجماهير، وقد انزلق الكثير منهم - برغم طهارتهم – إلى ما يمكن أن نسميه بظاهرة "جبل الرماة"، حيث كان مسرح الغنائم مجالاً للتدافع والتخلي عن موقع حماية مصالح الأمة.إن الإسلاميين الذين تعرضوا للاضطهاد بشكل فظيع وقاسٍ في العديد من الدول العربية بدأت تنفتح لهم – اليوم - أبواب السماء بماء منهمر ببركة ما جاء به هؤلاء الشباب، الذين رضعوا لبان ثقافتهم من الانترنت بأنسابه المختلفة، سواءٌ أكانت هذه الثقافة علمانية أم إسلامية، ولكنها ثقافة تحترم الآخر، وتمنح مساحات واسعة للتعايش والفهم المشترك، وتشجع العمل بروح الشراكة السياسية والتوافق الوطني، باعتبار أن طاقة الجميع هي من أجل الوطن والجميع.في الحقيقة، أن هذا الخيار هو - اليوم - الأفضل أمام الإسلاميين، لاستعادة زمام المبادرة والمكانة داخل الشارع العربي، وهي فرصتهم لتجاوز صفحات الأمس، حيث إن محاولاتهم السابقة لم يُكتب لها التوفيق في التعاطي مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.إن مراجعتنا لحقبة تاريخية معاصرة من الحراك الإسلامي تدفعنا للقول: إن هناك عدة تجارب إسلامية لم يكتب لها النجاح على مستوى بناء الدولة وتحقيق الاستقرار، كما أن هناك بعض التجارب الموفقة والتي تحتاج منّا أن نتطلع إليها لاستلهام الدروس وأخذ العبر.إن الإسلاميين - اليوم - يقفون بقلق على مفترق طرق، إما أن يسيروا مع الجميع ويستثمروا معهم، وإما أن تتجاوزهم المرحلة ويعضوا أصابع الندم.إن قناعتي أن حركة الوعي بين الإسلاميين اليوم هي في أفضل حالاتها، وأن هذه التحولات لن تمضي بعيداً عنهم، وسيكونون جزءاً أصيلاً من معالم الخريطة السياسية للمنطقة، والتي ستشهد تغيرات كبيرة فيما يتعلق بأشكال التحالفات بين القوى الإسلامية والليبرالية، التي ستعيد وضع القضية الفلسطينية في صدارة قضايا الأمة، وإلى المكانة المتميزة التي كانت عليها دائما، باعتبارها القضية المركزية للعرب والمسلمين.الواقع اليوم، أن هذه الرؤية ستشكل حالة إزعاج للقيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل، كما أن القلق على مستقبل دولة الاحتلال الصهيوني لن تغادر دوائر القرار الاستراتيجي في الغرب، وستبقى محاولاتهم لتطويق تداعيات ما جرى في تونس ومصر قائمة.