ترتبط المفاوضات فى أحد أهم أبعادها بالسلوك التنازلي ، ولهذا توصف العملية التفاوضية بالتنازلات ـ وتعرف المفاوضات بأنها عملية تبادل للتنازلات. وعليه لا تستقيم أي مفاوضات دون تنازلات ، لكن المسألة تبقى فى حجم هذه التنازلات ، وطبيعتها وجوهرها ، وثانيا في التوازن فى عملية التبادل ـ فلا تكون المفاوضات مفاوضات حقيقية إذا اقترنت بقيام طرف بتقديم تنازلات أكبر بكثير من الطرف ألأخر ، وثالثا ما الذي يمكن أن يقدمه كل طرف للآخر من مطالب ، ورابعا هذه المطالب غالبا ما ترتبط بمفهوم المصلحة الوطنية ، وترتبط هذه النقطة بما يسمى بسلم التنازلات ، فهناك حد أدنى لا يمكن لأي طرف تجاوزه ، وقد تزيد درجة التنازل من طرف لآخر ، لكن المهم أن لا تتجاوز نقطة البقاء الوطني . وتتوقف عملية التنازل على عوامل كثيرة بعضها يتعلق بحاجة كل طرف لما يريده من ألأخر ، وبعناصر القوة المتاحة لكليهما ، وبالعوامل الخارجية ، والداخلية لكل طرف . وتتعدد تكتيكات التنازلات التى قد يلجأ لها كل طرف ، فهناك تكتيك البدء بعرض متطرف ، وتكتيك التكرارات التنازلية ، وأخيرا تكتيك الفرصة ألأخيرة . ومن القضايا المهمة قبل الحديث عن إشكالية السلوك التنازلى فى المفاوضات الفلسطينية ألإسرائيلية ، عامل ضغط الوقت ، وانتهت الدراسات فى هذا الشأن الى ان معدل التنازل يتناقض مع الموقف ، وينخفض بزيادة قيود المساوم، وأن معدل التنازل يكون كبيرا فى ظل ضغط زمنى عال ، وبالعكس مع ضغط الزمن المنخفض، ومن العوامل المهمة أيضا معرفة كل مفاوض بما يريده الطرف التفاوضى ألأخر، ولا ننسى هنا كذلك عامل الادراك والتوقع من كل طرف تفاوضى ، فبقدر سرعة اللاعب فى توقع تنازل الخصم بقدر ما تزيد المطالب الضغوط التى تفرض على الطرف ألأخر، وبقدر أقناع الخصم ان هذا أقصى ما يمكن تقديمه ، بقدر استجابة الأخر، وتقديم تنازل من جانبه. هذه المقدمة كان لا بد منها ونحن نتحدث عن إشكالية المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. وابتداء هذه المقدمة تنطبق ألى حد كبير على السلوك التفاوضى التنازلى الفلسطينيى والاسرائيلى. فلسلوك التفاوضى الاسرائيلى من النوع الذى يمكن تسميته بالسلوك الاسترجاعى الشكلى ، ولذلك تجيد اسرائيل فن افتعال ألأزمات ـ التى قد توظفها للضغط على الجانب الفلسطينى لتقديم مزيد من التنازلات ، فالمفاوضات الفلسطينية بدأت بسلم عال من التنازل ، فمقابل الاعتراف وهو ورقة تنازلية كبيرة ، سمحت اسرائيل بقيام سلطة حكم ذاتى ، وكان يفترض أن يكون المقابل ما هو أكبر من قبل اسرائيل ، وبعدها لم تشهد المفاوضات قوة دفع ذاتية ، لأنها وصلت درجة من التصادم فى الحدود الدنيا لكل منهما ، ويلاحظ فى تتبع مسار هذه المفاوضات أن الفلسطينيين يفاوضون تحت ضغط عامل الزمن ، وهو الذى يفسر لنا التنازلات ألأكبر التى يقدمونها ، وهنا المقارنة مهمة ، فالفلسطينيون لا يملكون ما يقدمونه من تنازلات الا فى القضايا والمسائل الجوهرية ، كالقدس واللاجئتين ، والمستوطنات ، والحدود وشكل الدولة الفلسطينية ، لذلك التنازلات الفلسطينية من النوع الاستباقى والحقيقى ، فمثلا الفلسطينيون لا يملكون فرض الحصار ، او إقامة الحواجز ، أو الاعتقال اليومى ، او التحكم فى ما يدخل وما يخرج من سلع ، أو التحكم فى المسارات المالية ، وكل هذه المسائل تملكها اسرائيل وتوظفها توظيفا جيدا ، وهى مسائل لا تكلفها أى ثمنا سياسيا ـ بل على العكس مقابل أى تنازل فيها مطلوب من الجانب الفلسطينى أن يقدم مزيد من التنازل ، وخصوصا فى القضايا الجوهرية التى أشرنا اليها. وهذا السلوك التنازلى هو الذى قد يفسر لنا لماذا وصلت المفاوضات الى حالة من حالات الانسداد التفاوضى. ولاستحالة ايجاد مخرج لا بد من مراجعة هذا السلوك التنازلى لكلا الطرفين، وربط هذا السلوك فى أطار الرزمة النهائية ، وفى اطار التصور النهائى للحل ، والبعد عن السلوك التنازلى التجزيئى ، او مسألة تكرارية التنازلات ، فلم يعد الطرف الفلسطينى يملك ما يقدمه من تنازلات فى ظل هذا السياق التفاوضى ، قبل ان تكون لدية رؤية سياسية حقيقة للدولة الفلسطينية الحقيقية ، وهذا يستلزم من اسرائيل بوصفها سلطة احتلال ، وفى يدها الكثير الذى يمكن تقديمه أن تقوم بمبادرات جوهرية فى هذا الشأن حتى تعطى للمفاوضات قوة الدفع المطلوبة ، ولذلك ليس المهم البدء بالمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة ، بقدر توفر الضمانات الاقليمية والدولية التى توفر للمفاوض الفلسطينى المبرر للدخول فى عملية تفاوض محددة الهدف، ومقيده زمنيا ، أما الدوران فى حلقة تفاوضية مفرغة من مضامينها ستقود بلا شك لمفاوضات غير مجدية فلا يكفى التمسك بالمفاوضات والسلام كخيار استراتيجي ، ولا خلاف على ذلك ، ولكن فى نفس الوقت لا بد من تغيير البيئة التفاوضية ، وتغيير قواعد اللعبة ، وعدم جعل عامل الزمن سيف مسلط على رقاب المفاوض الفلسطينى . وأخيرا أن يعرف المفاوض الفلسطيني ماذا يمكن أن يقدم ومتى ، ومقابل ماذا ؟أكاديمى وكاتب عربى drnagish@gmail.com