بقلم : سهيل شعبان أبو العراج / في محطة من محطات الاغتراب وتفشي ظاهرة تغييب أهل العلم والمعرفة عن المسرح، وإنكار مساهماتهم الكبيرة في خدمة شعبهم ودون سابق إنذار، فقدت غزة المعلم الفاضل وعضو البرلمان الفلسطيني الأول عام 1996م عن المقعد المسيحي لمدينة غزة في حينه وشيخ القانون الكبير الأستاذ فرج بشارة الصراف.رحل هذا الرجل تاركاً وراءه إرثاً كبيراً وتاريخاً ناصعاً جسده بقلمه وعقله وتسامحه ودماثة أخلاقة ونبله.رحل هذا الأستاذ الكبير بصمت دون ضجيج يُذكر تاركاً غزة التي أحبها وأحبته، واحتضنته في قلبها الدافئ وكانت تلك الـ غزة في وداعه الأخير صامتة دون حراك كأنه غشيها نعاس.لو أردنا أن نتحدث عن مناقب ومآثر هذا الرجل كي نفيه جزء من حقه علينا كعربون محبة واحترام لشخصه وعلمه وثقافته وإثرائه للجلسات البرلمانية والقانونية، فإننا لا نستطيع أن نفيه حقه في هذه السطور، ولكن حريٌّ بنا أن نسطّر ونتوقف عند بعض المحطات الهامة والمفصلية في حياته، والتي نعرفها أو سمعنا بها، أو التي دلت عليها كتب التاريخ وشهادات المؤرخين عنه.كان فقيدنا بمثابة اليد الحانية التي امتدت للاجئين الفلسطينيين بعد الهجرة عام 1948م،عندما قدم مناشدة بشكل شخصي لمؤسسة الكويكرز والتي قامت بدورها برعاية وعناية اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا يعانون ظروف معيشية صعبة حتى تم تشكيل الأونروا عام 1950م وكان أحد أعضاء اللجنة الأولى التي تشكلت لمقاومة السياسات التعسفية والعقوبات الجماعية للاحتلال الإسرائيلي عام 1967م، وقد خدم أبو بشارة وطنه وأرضه وشعبه بإخلاصٍ وتفانٍ ودافع عن حقوق شعبه، وقد ترأّس نقابة المحامين حتى عام 1973، ثم عمل مستشاراً قانونياً للأوقاف الإسلامية، ثم مستشاراً قانونياً لبلدية غزة في فترة تعاقب خمسة رؤساء للبلدية في حينه، ثم انتخب عضواً في البرلمان الفلسطيني عام 1996م عن دائرة غزة( المقعد المسيحي) وترأّس أول جلسة للمجلس التشريعي في تاريخ الشعب الفلسطيني كونه أكبر الأعضاء سناًّ.هذا هو أسطورة القانون الفلسطيني الذي حافظ على القانون الفلسطيني على مر سنوات طويلة والذي لم يدّخر جهداً في طرح القضية الفلسطينية في المحافل الدولية على مدى عقود مضت، حيث مثّل فلسطين في عدة مؤتمرات دولية وعربية كقانوني بارز وشخصية وطنية فريدة من نوعها، وذو خبرات تراكمية كبيرة.أنا أتحدث عن الراحل الفذ فرج الصراف في هذا السياق مستذكراً بعض إنجازاته من باب الوفاء لسيرته العطرة وتاريخه المشرف، وهذا غيض من فيض ذلك الذي خلّف وراءه العديد من الدراسات القانونية التي لم يبخل بها على أبناء وطنه وطلابه ومريديه.إنه كان يتمتع بجزالة الألفاظ وعمق الكلمات وغزارتها، وصدق أحاسيسه المرهفة، هذا إلى جانب ولعه بالعلم والقراءة اليومية التي كان يداوم عليها حتى آخر أيامه. كان في البرلمان رجلاً للحكمة، وأنموذجاً يحتذي به في فن الاستماع والتعبير.وعن ذكريات الرجل مع الرئيس الراحل أبو عمار هناك الكثير كما علمنا، فقد كان محبّباً إلى نفس أبو عمار وكان يثق به لدرجة كبيرة ، وكان بينهما ممازحات، وكان يطلق عليه أبو عمار لقب الأستاذ فرج.لقد مر هذا الرجل بمحطات كثيرة في حياته وتلك المحطات أكبر من أن تختزل في كلمات أو جمل هنا وهناك، فقد كان مثالاً للرجل الوحدوي والمتسامح والهادئ والذي لا يفرق في تعامله بين مسلم أو مسيحي وبين مواطن ولاجئ أو بين غني وفقير.وعند حضوري بيت العزاء كوني كنت أعمل مديراً لدائرة نواب غزة في المجلس التشريعي في حينه، وتربطني علاقة جيدة مع الرجل وأسرته، استفزتني بعض الأشياء وأنا في بيت العزاء فكنت أتفقد الحضور فلم أجد من بين الحضور من أعرفهم من زملائه البرلمانيين، الذين تقاسموا معه الهم الفلسطيني والقانوني والاتجاهات السياسية والفكرية، رغم تواجد جموع غفيرة من مؤسسات مختلفة،وشخصيات اعتبارية، وقانونيين،وسياسيين، وكانت مشاركة كافة طبقات المجتمع دليلا علي مكانته بين الناس واحترامهم له، وعندما نظرت في عيني كريمته مي شاهدت بريقاً وألما معتصراً على زملاء الأمس الذين استنكف العديد منهم من تقديم واجب العزاء .إننا فقدنا هذا الرجل المعطاء ، فلا بد من لمسة وفاء له ، أفلا يستحق منا أن نذكره ولو بكلمات تعبر عن جهوده الكبيرة في خدمة هذا الوطن العزيز .وفي هذا السياق لا بد أن نتساءل: على من نعتب؟ أنعتب على الانقسام الذي ألقى بظلاله على استنكاف زملائه في غيابهم عن مشهد وداعه، أم نعتب على من؟!تبدو في هذه الحالة شماعة الانقسام والتشظى حائلاً بيننا وبين أنفسنا، وكأننا فقدنا البوصلة في تمييز الأشياء، وعلى جانب آخر من المشهد كان هناك زواراً كثر وفي عيونهم تساؤلات وتساؤلات !الصورة أصبحت الآن مشوشة وتنبئ عن فضاء ملوث بكافة المكونات، والتي كانت على الدوام هي النبراس والمخرج لنا جميعاً .إلى أسرته الكريمة أتقدم بأحر التعازي