معاريف - بقلم جاكي خوجي-
انهارت أمامنا تلك الوعود التي ولدت في الأشهر الأولى من الحرب. مثلاً، الادعاء الحماسي بأن الضغط العسكري سيؤدي إلى تحرير المخطوفين؛ أو الإعلان بإمكانية تحقيق أهداف الحرب كلها معاً – نأتي بالمخطوفين إلى الديار وندمر حماس والفصائل الأخرى. ولكن تبين لنا بأن تحرير المخطوفين ليس يسيراً، والقتال أيضاً.
من بين جثث المخطوفين الستة الذين جيء بهم إلى إسرائيل هذا الأسبوع، خمسة على الأقل قتلوا في أثناء هجوم إسرائيلي، ربما قتلوا على أيدي آسريهم، وربما أصيبوا بالصواريخ، في كل حال – القتال سرع موت حاييم بيري، واليكس دنتسيك، وعميرام كوفر. ثلاثتهم من كيبوتس “نير عوز”. وكذلك نداف بوبلفيل وياغف بوخشتوف، عضوا كيبوتس “نيريم”. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقتل فيها مخطوفون في هذه الظروف. فقد كان ثلاثة فروا في حي الشجاعية وقتلوا بإطلاق النار عليهم بالخطأ في كانون الأول على أيدي مقاتلي الجيش الإسرائيلي: يوتام حاييم، ألون شمريز، وسامر طلالقة، إضافة إلى يوسي شرعابي الذي اعترف الجيش الإسرائيلي بقتله خطأ في زمن الهجوم. ويحتمل أيضاً أن الجنديين نيك بايزر ورون شيرمان، والمواطن الياهو طوليدانو، قتلوا في تشرين الثاني في نفق تعرض للهجوم.
كانت الفرضية الثانية أن حماس تكذب كي تمارس ضغطاً على إسرائيل، وعليه لا يجب تصديق منشوراتهم. بل وربما اختلقوا لذلك تعبيراً جديداً – إرهاب نفسي. واضح أنهم يسعون لتحقيق شيء ما من خلال هذه المنشورات. لكن كان يمكن أن نجد في أقوالهم معلومات حيوية لكل إسرائيلي. فقد أعلنت حماس في ثلاثة بيانات منفصلة بين آذار وأيار بأن المخطوفين الخمسة الذين أعيدوا هذا الأسبوع، قتلوا في هجوم للجيش الإسرائيلي. كما أنهم حذروا من أن حياة المخطوفين كلهم في خطر. عشرة أشهر ونصف الشهر بعد ذاك السبت، واضح أن المخطوفين آخذون في الفناء في الأسر. إبادة حماس تتناقض وإعادتهم.
ضرب عائلات المخطوفين
يدعي الكثيرون الآن بأنه لا ينبغي وقف الحرب من أجل صفقة مخطوفين. وباسم هذا المبدأ بدأ بعضهم يضربون أبناء عائلات المخطوفين ومؤيدي الصفقة خشية أن يؤخذ برأيهم فتقع كارثة علينا جميعاً. وحسب هذه الفرضية، إذا أوقفنا الجياد الآن فستعيد حماس بناء نفسها وتواصل أفعال الذبح في المستقبل. الصفقة المقترحة عسرة على الهضم بالفعل، وستكون قاسية مشاهد السجناء الأمنيين الذين يخرجون إلى الحرية، والتفكير بأن السنوار لن يدفع الثمن بحياته، الآن على الأقل.
ثمة سيناريوهان مصيريان على طاولة الحكومة الآن. صفقة تحرير أم استمرار الحرب؟ كل منهما أصعب من أخيه. في خطوط عامة، هكذا سيكون السيناريو الأول: إسرائيل تقبل مقترح الوسطاء وتوقف النار لإنقاذ المخطوفين. ستنتهي الحرب، وينسحب الجيش من غزة. سيتحرر المخطوفون في ثلاث مراحل، مثلما صيغ في الصفقة. فور المرحلة الثالثة، يبدأ ترميم القطاع.
بعد ذلك، يجري البدء في إقامة نظام جديد في القطاع. اليوم التالي لحماس. ستهرع دول عربية والولايات المتحدة إلى المساعدة، بالمشاركة مع إسرائيل، سيجدون المبنى السياسي الأنسب الذي سيضمن إعمار القطاع من جهة، وأمن إسرائيل من جهة أخرى. لن تكون حماس جزءاً من الحكم الجديد. لكن السنوار سيصر على ترك بعض الاستقلالية والقوة العسكرية في يديه. فبضعة آلاف من مقاتليه سيبقون إلى جانبه. احتمال في أن يصبح ولداً طيباً أو ينزع سلاح حماس طوعاً، احتمال يقترب من الصفر. سيصطف السجناء المحررون حولها، فيما يكون كل منهم قائداً محتملاً. وإسرائيل، من جهتها، لن تسمح بوجود حماس كجسم مسلح – وستخرج مرة أخرى إلى حملات عسكرية قصيرة المدى بل وربما إلى حرب طويلة.
هذا هو التخوف المركزي لمعارض الصفقة، فلا يمكن إلغاؤه بجرة قلم. وبالفعل، كل المؤشرات لا تدل على أنه سيكون المنحى الذي تتطلع إليه الحكومة الحالية. فهي ستفضل السيناريو الثاني وإن كمن فيه خطر ملموس على حياة المخطوفين.
حسب هذا السيناريو، تستمر الحرب بلا صفقة. قلة من المخطوفين يحظون بأن يكونوا منقذين في عمليات خاصة، لكن معظمهم سيقضون نحبهم رويداً رويداً. منهم من سيموت بنار الجيش ومنهم من سيتدهور صحياً أو بثقل ذراع آسريهم الإجرامية. الضغط لتحريرهم قد يقل مع مرور الوقت. في ختام فترة منظورة للعيان – سنة أو سنتين – ستباد حماس ومعها كل الفصائل المسلحة في غزة. وستتفرغ إسرائيل، وهكذا يأملون، لتصميم غزة كما تريد، بلا معارضة من الداخل.
من يصور هكذا المستقبل القريب، يرى في المخطوفين ضحية ضرورية يجب تقديمها من أجل تحقيق الاستقرار. لكن الواقع أكثر تعقيداً. في اليوم التالي لحماس، وإن كان سيختفي الحماسيون، لكن اثنين آخرين لن يختفيا معهم: سكان القطاع – ونزعة الثأر.
يعود تعبير “الحاضنة” إلى الاستخدام وفقاً للغة المهنية لمعسكر المقاومة. يقال عن مدينة أو قرية معينة (جنين مثلا، أو بلدة صوريف قرب الخليل) إنها تشكل منذ 80 سنة حاضنة للمقاومة. كما أن هناك من يقول عن الأم الفلسطينية إنها الحاضنة الطبيعية لمقاتلي المقاومة. حاضنة بمعنى انكيوبيتر (حاضنة طبية)، مزرعة. مكان لبيئة داعمة ومشجعة لنمو المسلحين.
غزة في السنوات القريبة القادمة لن تكون حاضنة فقط، بل حوض ضخم لنمو الأعداء. قلة من سكانها لم يفقدوا أقرباء لهم في الحرب. آلاف الأطفال قتلوا، وكذا نساء وفتيات وشيوخ. سيكون دافع المحاسبة مع إسرائيل كبيراً جداً. وسيتضاعف إذا لم نرهم حلاً معقولاً ولا نوفر لهم الحياة الطبيعية. رئيس الوزراء نتنياهو نفسه قال قبل بضعة أشهر في مقابلة مع وسائل إعلام أمريكية، إن هناك من سيبقى ويريد لنا الشر بعد حماس، وسيتعين علينا أن نقاتلهم أيضاً.
مجرد التفكير بأن تصفية حماس ستجلب لنا هدوءاً مطلقاً هو تفكير يتبدد، فهو متعلق بالمكان الذي تقتاد فيه دولة إسرائيل غزة. هل سنستغل الفرصة لترميم وبناء جيرة طيبة أم ربما لا نترك لهم خياراً غير الدخول في حساب إجرامي معنا؟ راعوهم يتحفزون على الخطوط الآن. إيران، و”داعش”، و”القاعدة”، كل هؤلاء ينتظرون اللحظة التي يترك فيها القطاع لرحمتهم. وعليه، فإن التحدي في غزة لا يزال أمامنا.
في كل من هذين السيناريوهين إمكانية معقولة في استمرار النار وإجبار الجيش الإسرائيلي للعودة إلى العمل. إن لم يكن في المستقبل القريب، ففي السنوات القادمة. في كل واحد منهما عنصر رهان. لكن من بين الاثنين، الصفقة الآن تترك في أيدينا أوراقاً ضرورية، لن تتوفر بعد ذلك. ستوفر الانكسار الاجتماعي العميق إذا ما ضاع المخطوفون. عودتهم ستكون بداية إشفاء داخلي ضروري للمجتمع الإسرائيلي في علاقاته بينه وبين نفسه وفي علاقاته مع قادته. ستوقف الخراب الذي أوقعه حزب الله على بلدات الشمال وسكانها. وهي كفيلة أيضاً أن توقف استمرار الركود الاقتصادي، وانخفاض الائتمان والحفرة المالية في الميزانية التي تنتظرنا خلف الزاوية، وأيضاً ستوفر قتلى وجرحى.
ولكل أولئك الذين لا يزالون يريدون الثأر من حماس: كثير ثأرنا، عاقبناهم كثيراً، بعشرات أضعاف ما فعلوه لنا، بل وأكثر. لم نخرب قطاع غزة فحسب، بل وروح سكانه حتى آخر أيامهم. سنضطر للعودة للقنال هناك، لكن الأحوج لنا هو لترميم أنفسنا.