الأكيد أن ما لا يحصى من الناس، في أماكن مختلفة من العالم، وفي إسرائيل نفسها، كانوا قادرين على تشخيص التناقضات المنطقية، والأكاذيب، التي حشدها نتنياهو في خطابه أمام الكونغرس، وقوبلت بموجات متلاحقة من الانفعال والتصفيق. وهذا يحدث مع الكتب، أيضاً. فالكثير منها يحفل بتناقضات منطقية، وأكاذيب، لا يفشل الكثير من الناس في اكتشافها، ولكنها تثير انفعال وتصفيق الآخرين.
في ذهني، الآن، أكثر من حالة تصلح كوسيلة إيضاح. ولنبدأ بكتاب صدر في أواخر العام الماضي بعنوان «دفاعاً عن الكولونيالية» لشخص يُدعى بروس غِيلي، ويعمل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة أميركية.
المكتوب يقرأ من عنوانه، كما يُقال، هذا عنوان صارخ لم يفشل أو يتردد العاملون في أقسام العلوم الاجتماعية في الأكاديميا الغربية في الرد عليه، وتفنيد فرضياته، ناهيك عن إدانة صاحبه بالعنصرية.
خلاصة الأخ غيلي أن الكولونيالية لم تكن شيئاً سيئاً كما ساد الاعتقاد حتى الآن.
وفي معرض التدليل على صحة فرضياته قدّم شهادات أشخاص عاشوا في زمن الكولونيالية، وما بعدها، أي في دولة الاستقلال، والسيادة الوطنية، وانتقدوا ما آلت إليه الأمور الصحية والتعليمية والقضائية والسياسية في بلادهم.
هذا النوع من النوستالجيا شائع في المستعمرات السابقة، لكنه لا يصلح، ولا يكفي، لبناء مرافعات منطقية في معرض الدفاع عن الكولونيالية.
ومع ذلك، دعك من النوستالجيا، وأشياء تبدو قليلة الأهمية مقارنة بالنماذج والتجارب الحيّة التي استخدمها في التدليل على صحة فرضياته، وهي مفاجئة وصارخة إلى حد بعيد. فإسرائيل، التي لم تكن لتظهر إلى الوجود لولا الكولونيالية البريطانية (هذا كلامه) تصنع هي ودولة الإمارات (التي نشأت من تجربة كولونيالية، أيضاً، وهذا كلامه، أيضاً) تحالفاً يلتزم بتحقيق الاستقرار الإقليمي، والحكم الرشيد، والتحديث، وهذه كلها من صميم المشروع الكولونيالي.
لا قيمة، ولا معنى، للرد على هذا الكلام. والأهم أن نستخلص من كتاب كهذا دلالات تقبل التعميم.
وأوّل ما يرد إلى الذهن أن نقد ونقض أفكار ومناهج وشهادات وشواهد وتواريخ استقرت في الأكاديميا الغربية، بشأن الكولونيالية وتاريخها الأسود، يدل على تحوّلات أكسبت اليمين الجديد ثقة غير مسبوقة بالنفس، ومكّنته من توليد حاملي رايته الأيديولوجية في صورة مثقفين عضويين انتقلوا من الهامش إلى المتن.
بمعنى آخر، قاعدة اليمين الجديد الانتخابية، التي تزداد اتساعاً في الغرب الأوروبي، والأميركي، تولّد مفكريها ومنتجي خطابها بقدر أكبر من الكفاءة. تماماً، كما حدث في زمن هيمنة حسن الترابي وعمر البشير على سدة الحكم في السودان، عندما شرعت الجامعات السودانية في إنتاج وتدريب أكبر موجة من حاملي الشهادات العليا بين الإسلاميين على مدار ما يزيد على عقدين من الزمن. واللافت أن حصة الفلسطينيين بين هؤلاء كانت كبيرة.
على أي حال، ثمة دلالة استثنائية، تفوق الأولى أهمية، هي العلاقة الحتمية، والأكيدة في أيديولوجيا اليمين الجديد بين «الدفاع عن الغرب» ومركزية إسرائيل، وضرورة الدفاع عنها، في سياق الدفاع عن الغرب نفسه. ولكيلا نبتعد كثيراً سنعود إلى الأخ غِيلي، الذي حاضر في نيسان (أبريل) الماضي في جامعة في ماليزيا، وأثارت محاضرته ردود فعل غاضبة هناك، وفي أوساط أكاديمية مختلفة. ردود الفعل لم تتوقف حتى الآن.
وردت في محاضرة المذكور عن السياسة الخارجية لمضيفيه عبارة أعاد نشرها في تغريدة أيضاً. تقول العبارة: إن ماليزيا تنشط في الحض على محرقة ثانية ضد اليهود، لذا، لن تكون قائداً مقبولاً في الشؤون الدولية، ولن تكون شريكاً بالتأكيد، ولن تكون صديقاً للولايات المتحدة. مرّة أُخرى، لا فائدة من محاولة تمحيص هذا الكلام، أو التدليل على فساد منطقه، بل التذكير بحقيقة الترابط العضوي، والمنطقي، في المخيال السياسي للمذكور بين «الدفاع عن الغرب» و»الدفاع عن إسرائيل».
وما يستدعي التفكير، في هذا الصدد، إمكانية العثور على دلالات متشابهة، في خطابات إبراهيمية مختلفة عن «العالم الذي تغيّر»، و»سلام المصالح»، والعلاقة مع إسرائيل كشرط مسبق لتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة. وقد حبّر أحدهم صفحات كثيرة بين دفتي كتاب للتدليل على «لحظة الخليج» الاستثنائية في تاريخ العالم العربي، وما ألقته الظروف على كاهله من أعباء التنمية والاستقرار الإقليمي، والاعتدال والحكم الرشيد. يعني كلام غِيلي ناقص الكولونيالية.
مهما يكن من أمر، ثمة وسيلة إيضاح ثانية تتمثل في بريطاني يُدعى دوغلاس موراي، وهو وجه بارز ودائم الحضور في منصّات الدعاية الإسرائيلية، وحليفاتها، في الغرب الأوروبي والأميركي، وفي إسرائيل نفسها، يعمل رئيساً مساعداً للتحرير في جريدة بريطانية يمينية. وفي معرض المقارنة بين جماعة حماس والنازيين قال إن النازيين كانوا يفرطون بالشراب بعد قتل ضحاياهم نتيجة الإحساس بالخجل، أما حماس فتشعر بالفخر.
نشر المذكور قبل عامين كتاباً بعنوان «الحرب على الغرب»، وسبقته كتابات أُخرى تُقرأ من عناوينها حول الأمر نفسه: خطر المسلمين والإسلام والمهاجرين على الغرب، والعلاقة العضوية بين الدفاع عن الغرب والدفاع عن إسرائيل. وهذا غيض من فيض، ففي الوقت الحاضر يمكن تأثيث مكتبة كاملة في قاعة كبيرة بكتب تندرج تحت العنوان نفسه، بتنويعات، وتحويرات مختلفة. بمعنى أكثر مباشرة:
في تكرار الربط بين «الدفاع عن الغرب» و»الدفاع عن إسرائيل» ما يعزز الكلام عن ظاهرة، وفي الظاهرة ما يدعو إلى تشخيص السمات واستنباط الدلالات. فاصل ونواصل.