نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية مقالا لليلى سورات من المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة في باريس تساءلت فيه عن هدف حماس في غزة، وحللت فيه الإستراتيجية التي قادت إلى الحرب وما تعنيه للمستقبل.
وقالت سورات وهي مؤلفة كتاب عن “السياسة الخارجية لحماس: الأيديولوجية وصناعة القرار والتفوق السياسي” إن واحدا من أهم ملامح هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر ضد إسرائيل ولم يتعرض وبشكل نسبي للتمحيص وهو “المكان”، فعلى مدى العقد الماضي، لم يعد قطاع غزة ساحة المعركة الرئيسية بسبب التوغلات الإسرائيلية المستمرة، بما فيها عملية “الجرف الصامد” في 2014 والتي استمرت شهرين وكانت الأطول، حتى العملية الأخيرة، كما التفوق الإسرائيلي في اعتراض الصواريخ قلل من فعالية أنظمة حماس الصاروخية وظل القطاع معزولا عن بقية العالم بسبب الحصار المتواصل.
وبالمقارنة، فقد كان من الواضح أن الضفة الغربية هي ميدان النزاع، فتوسع الاستيطان واستمرار التوغل الإسرائيلي من الجنود والمستوطنين في القرى والبلدات الفلسطينية، وكذا مداهمات الأماكن المقدسة في القدس، والتي جذبت اهتماما إعلاميا، وهو أمر اعترفت به حماس وبقية المنظمات الفلسطينية، وهو أن هذا المكان هو المناسب لانطلاق المقاومة الوطنية الفلسطينية. وبالتأكيد كان هذا هو التفكير الإسرائيلي أيضا، حيث كانت القوات الإسرائيلية تراقب الفلسطينيين في الضفة الغربية، راضية عن الهدوء في غزة التي لم يكن تهديدها يظهر إلا عبر رشقات صاروخية متقطعة.
إلا أن هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر ناقضت هذه الفكرة، فمن أجل القيام بهجومها المميت ضربت حماس معبر إيرتز وعدة نقاط من السياج الأمني، وقتلت 1200 إسرائيليا وأخذت 240 رهينة.
وكانت قيادة حماس العسكرية تتوقع ردا قويا من إسرائيل، وهو ما أكدته الحملة العسكرية الجوية والبرية على غزة والتي قتلت أكثر من 18 ألف فلسطيني ودمرت أجزاء واسعة من القطاع وجذبت العملية انتباه العالم وقادته وعلى مدى أسابيع. وتحولت غزة إلى قلب المواجهة الإسرائيلية- الفلسطينية وبعد سنوات من بقائها في خلفية النزاع.
وتطرح عودة مركزية غزة في النزاع أسئلة على قيادة حماس. ففي الماضي كان هناك افتراض ان الحركة تدار من قادتها في الخارج والمقيمين إما في عمان أو دمشق أو الدوحة. لكن هذا الفهم عفا عليه الوقت ومنذ فترة طويلة. فمنذ تولي يحيى السنوار قيادة غزة في 2017، تعرضت حركة حماس لتحول تنظيمي باتجاه غزة نفسها. فإلى جانب تأكيد استقلالية حماس في غزة عن القيادة في الخارج، أشرف السنوار على جهود تجديد حماس كقوة قتالية في غزة.
وكان هدف السنوار بالتحديد، هو القيام بهجوم ضد إسرائيل وربط غزة بالكفاح الفلسطيني الأوسع. وبطريقة أخرى، حاول تكييف حركة حماس في غزة لتتناسب مع التطورات النامية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، بما في ذلك التوترات المتزايدة في المسجد الأقصى. وبدلا من عزل القطاع أسهمت إسرائيل بوضع غزة في مركز انتباه العالم. وكمنظمة سياسية وعسكرية، لدى حماس أربعة مراكز للقوة: غزة، الضفة الغربية، السجون الإسرائيلية التي يسجن فيها عدد من قيادات حماس، وقيادة الخارج.
وظلت قيادة الخارج تمارس تأثيرا على الحركة، وهذا نابع لأن العديد من قيادات الحركة فروا أثناء الإنتفاضة عام 1989، إلى الأردن ولبنان وسوريا. وتحولت دمشق في 2000 مقرا رئيسيا لحركة حماس. وسيطر هؤلاء القادة من مواقعهم في الخارج على الجناح العسكري المعروف بكتائب عز الدين القسام، وتحركوا دبلوماسيا مع القادة الأجانب وجذبوا الدعم المالي من الجمعيات والمانحين الأفراد، ومن إيران، بعد مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو.
وظلت قيادة الخارج طوال هذه السنوات مهيمنة على الداخل، وكان بعض القيادات مثل خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي قد نشأوا في الخارج، لكنهم اتخذوا قرارات الحرب والسلام وحددوا ما تقوم به الكتائب التي كان تفعل ما يطلبون حتى في حالة عدم اتفاقها معهم. لكن تفوق الخارج أصبح محل تساؤل بعد اغتيال المرشد الروحي للحركة، الشيخ أحمد ياسين عام 2004. ولعبت عدة عوامل في استقلالية حماس الداخل، منها فوزها في انتخابات عام 2006 وتشكيل الحكومة وقبل أن تسيطر على القطاع في 2007، وعندما شددت إسرائيل الحصار على القطاع، استطاعت الحركة تأمين موارد مالية من تجارتها السرية عبر الأنفاق. وساهم الربيع العربي والثورة السورية في تسريع استقلالية قيادة الداخل عن الخارج. وحاولت حماس مع بداية الثورة السورية التوسط بين المقاتلين السوريين والنظام، ولكنها رفضت الطلب الإيراني إظهار الدعم غير المشروط لنظام بشار الأسد. ونتيجة لهذا، قررت الخروج من دمشق في شباط/فبراير 2012، حيث أقام موسى أبو مرزوق، نائب الرئيس في القاهرة، وأقام مشعل في الدوحة، حيث وجه انتقادات حادة ضد إيران وحزب الله لدعمهما الأسد. وردت طهران بتخفيض الدعم لحماس من 150 مليون دولار في العام إلى 75 مليون دولار.
وأدى تشتت القادة إلى إضعاف قيادة المنظمة الخارجية. وفي مقابلة مع غازي حمد، أحد قيادات حماس البارزة في غزة أجرتها الكاتبة معه بغزة في أيار/مايو 2013 قال فيها إن “الرحيل عن سوريا ساعد كثيرا قيادة غزة”، مضيفا “لا أقول إن غزة تفوقت على القيادة خارجها. ولكن أصبح هناك توازن كبير بينهما”. ومن الملاحظ أن حماس واصلت العلاقة مع طهران، وكان هذا بارزا مع قيادات كتائب القسام، وبخاصة مروان عيسى، نائب قائد الكتائب الذي سافر إلى طهران كلما سنحت الفرصة. وظهرت استقلالية الداخل من خلال اختطاف جلعاد شاليط، الذي أمر باختطافه زعيم الكتائب أحمد الجعبري والذي قاد عملية التفاوض مع حمد للإفراج عنه، وبموجب الصفقة أفرجت إسرائيل عن 1027 أسيرا من السجون الإسرائيلية وهو ما كان بمثابة انتصار للحركة في غزة. واغتالت إسرائيل الجعبري في العام التالي في عملية “عمود السحاب”. ولعبت التوغلات المستمرة دورا في تقوية حماس الداخل وبخاصة الكتائب التي كانت تقوم بدور مهم في ساحة المعركة مقارنة مع القيادة المهمشة في الخارج. وانضم ثلاثة من قادتها في 2013 إلى المكتب السياسي كاعتراف بدورها، ومنحها دورا مباشرا في القرار. وأسهم الحصار في منح غزة مكانة رمزية كمنطقة تضحية، سعى قادة حماس الاعتراف بها وتعزيز شرعيتهم، كما فعل مشعل في 2012 عندما ألقى خطابا فيها “أقول أنني رجعت لغزة، ولو لأول مرة فإنني في غزة لأنها في قلبي”.
وعززت سنوات ما بعد 2017 مكانة قيادة حماس في غزة، ففي ذلك العام عين إسماعيل هنية الذي كان قائدا في غزة، محل مشعل كمسؤول للمكتب السياسي، وبهذه الطريقة أصبحت إيران قادرة على التعامل مباشرة مع قيادة غزة. واضطر هنية للانتقال من غزة إلى الدوحة عام 2019 لتصبح غزة تحت قيادة يحيى السنوار، الزعيم العسكري السابق والمنافس لهنية في التأثير.
وكان السنوار شخصية محورية في إنشاء الجناح العسكري للحركة في الثمانينيات من القرن الماضي، وقضى في السجن 22 عاما، وساهم ببناء قيادة حماس، وخرج منه ضمن صفقة شاليط عام 2011. ولدى السنوار رؤية واضحة عن الكفاح الفلسطيني المسلح وهي أن الهجوم العسكري وتأكيد القوة كفيل بإجبار الإسرائيليين على التفاوض بطريقة متساوية.
وعندما أصبح رجل غزة القوي، بدأ بوضع رؤيته محل التطبيق، فسعى أولا للحصول على تنازلات من إسرائيل وركز ثانيا على تقوية الكتائب ووسع قواتها من 10 آلاف مقاتل في العقد الأول من القرن الحالي إلى 30 ألف مقاتل. وأعرب أحمد يوسف، المستشار السابق لهنية عن تحفظه من منح غزة سلطة أوسع من سلطة الخارج والتي يجب أن تكون لها الأولوية. كما عبر عن مخاوفه من علاقات السنوار مع الجناح العسكري لحماس، بشكل يمنح إسرائيل المبرر للتعامل مع غزة كمركز تفريخ إرهابيين. إلا أن السنوار أثبت في 2018 و2019 أنه قادر على تقديم نتائج من خلال التظاهرات عند السياج الحدودي، حيث أجبرت إسرائيل على الدخول في اتفاقيات بشأن تخفيف بعض القيود وفتح معابر وزيادة الدعم القطري. لكن الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية تشككوا من تحركات حماس باعتبارها محاولة لحرف النظر عن المشاكل النابعة من حكم الحركة للقطاع. وفي 2021، انتهز السنوار الفرصة لمواجهة أزمة الثقة عندما قامت الكتائب بإصدار انذار ضد إسرائيل بشأن معاملتها الفلسطينيين في الشيخ جراح بالقدس الشرقية ومداهمة الأقصى. وجاءت محاولة حماس الربط مع المناطق الفلسطينية الأخرى، وسط توقيع دول عربية اتفاقيات سلام، وهو ما منح صورة أن حماس هي التي تدافع عن القدس والفلسطينيين ضد المستوطنين وسط تطبيع دول عربية. ومنذ 2021، كانت حماس حريصة على ربط غزة ببقية المناطق الفلسطينية والتضامن مع الأقصى، ومن هنا أطلقت على العملية في تشرين الأول/أكتوبر “طوفان الأقصى”.
ورأت الكاتبة أن حماس وكتائب القسام حاولت الحفاظ على مستوى تأثير في الحرب الدعائية ومناقضة الرواية الإسرائيلية ونشر أشرطة فيديو وبيانات رغم الحصار الإعلامي وقطع الاتصالات على القطاع. ولا يبدو أن قيادة حماس في الخارج على علاقة مع الحملة الإعلامية، وعلى خلاف عملية الرصاص المسكوب 2008/2009، فمن ينشر المعلومات ليس رئيس المكتب السياسي بل والناطق باسم الكتائب أبو عبيدة الموجود على الأرض.
وبالمقارنة عقد ممثل حماس في بيروت، أسامة حمدان، مسؤول العلاقات الخارجية السابق عدة مؤتمرات صحافية من أجل مناقضة مزاعم إسرائيل عن الحرب، وهو يشترك مع فكرة التداخل في الجناح السياسي والعسكري باعتباره أمرا طبيعيا، ويدعم فكرة السنوار ان القوة تخدم القضية الفلسطينية.
وقال في مقابلة عام 2017 مع الكاتبة إن معظم قادة إسرائيل كانوا أمراء حرب قبل الدخول في السياسة. وصور الحرب بأنها حرب تحرير ضد المشروع الصهيوني الأمريكي الإمبريالي. وبالنسبة له حققت عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر منافع للفلسطينيين مثل تحرير السجناء وجر الجيش الإسرائيلي لوضع صعب وغير ذلك. ومن خلال قيامها بالعملية فقد كشفت حماس أن إسرائيل ليست منيعة. ورغم الكلفة الباهظة، فقد جعلت حماس مشروع التحرير قويا للفلسطينيين وكشفت عن الدمار الذي تسببت به إسرائيل ضد المدنيين، وأظهرت للعالم وحشية الاحتلال الإسرائيلي.
وستترك الحرب نتائج على مستقبل النزاع. ورغم الكلفة الباهظة والدمار، فقد أظهرت الحرب تحولا في داخل حماس نفسها، فمن خلال إجبار إسرائيل على حملة في غزة، فقد قلبت عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر مفهوم أن غزة أرض محررة من الاحتلال الإسرائيلي يمكن الحفاظ على الوضع الراهن فيها للأبد. وبالنسبة لحماس، فقد حققت الحرب أهدافها بوضع غزة في مركز الكفاح الفلسطيني ومركز الجذب العالمي. كما وربطت الحرب الفلسطينيين برضوض تاريخية حملوها معهم منذ النكبة، حيث ربط التهجير القسري من الشمال للجنوب في القطاع وخطط إجبارهم على الرحيل إلى سيناء، الفلسطينيين بتاريخهم.