خبر : اوباما ولعنة حروب بوش ..د.بشير موسى نافع

الخميس 22 أكتوبر 2009 12:29 ص / بتوقيت القدس +2GMT
اوباما ولعنة حروب بوش ..د.بشير موسى نافع



  ترك الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن العالم في حال من الاضطراب البالغ، ومعه ترك وضع الولايات المتحدة العالمي في أوسوأ أحواله. القوة العظمى التي كانت قبل عقدين فقط قد كسبت الحرب الباردة، ودفعت منافسها الرئيس على المسرح الدولي إلى التفكك، وأعلنت باعتبارها الدولة الأكبر قوة والأوسع هيمنة وسيطرة في التاريخ الإنساني الحديث، تخبطت في عهد بوش من ملف خارجي إلى آخر ومن حرب إلى أخرى. ما إن أطاحت الحرب الأمريكية على أفغانستان بحكومة طالبان، حتى سارعت واشنطن بوش إلى حرب أخرى وغير مبررة ضد العراق. وعندما ترك بوش البيت الأبيض في مطلع هذا العام، كانت قواته لم تزل تقاتل في أفغانستان، وتواجه مناخاً من القلق وعدم اليقين في العراق. وضعت إدارة بوش إيران وملفها النووي هدفاً رئيسياً لها، سيما في ولاية بوش الثانية، ليس بسبب تهديد إيران للولايات المتحدة ومصالحها، ولكن بسبب ما يمثله الاحتمال النووي الإيراني من خطر على التفرد الإسرائيلي في المشرق. ولكن بوش لم يستطع إثناء إيران عن مواصلة برنامجها النووي، وخشي العواقب الوخيمة الممكنة من توجيه ضربة عسكرية لها. في أوروبا، حيث المسرح المركزي لصعود القوى وتدافعاتها منذ الحروب النابوليونية، ترك بوش ميراثاً مثيراً للاستغراب والدهشة؛ فبعد أن خرجت روسيا من انهيار الاتحاد السوفييتي تترنح وتلعق جراحها، وقد أصبحت أقرب إلى منافسيها الأوروبيين منها إلى صورتها القديمة، إذا بروسيا تعود خصماً، يهدد الأمن الأوروبي وينذر بالعودة إلى أجواء الحرب الباردة، في المجال الأوروبي على الأقل. وفي موازاة سياسة التحفز الروسية الجديدة، قطعت الصين شوطاً واسعاً في صعودها الاقتصادي، وأصبح من الصعب، وربما من المستحيل، إبطاء النمو الصيني غير المسبوق، بدون إخلال خطر بالاقتصاد العالمي ككل. وحتى قبل أن تنتهي ولاية بوش الثانية، كانت السياسة الامريكية تواجه تراجعاً تلو الآخر في المنطقة العربية، بعد أن أخفقت سياسة نشر الديمقراطية في تقويض قوة حزب الله وحماس، أو في إضعاف القوى الإسلامية السياسية المناهضة للنفوذ الأمريكي. وبفشل الحرب الإسرائيلية في لبنان وقطاع غزة، منيت السياسة الأمريكية في نسختها المتماهية مع المصالح الإسرائيلية بنكسة كبيرة. إلى جانب ذلك كله، أصاب صورة الولايات المتحدة لدى شعوب العالم، بما في ذلك، شعوب الدول الحليفة في أوروبا الغربية، عطب كبير.بيد أن مشكلة المشاكل في ميراث إدارة بوش هي بالتأكيد أفغانستان. ليس بالضرورة لأن أفغانستان أكثر تعقيداً من المسألة الفلسطينية، مثلاً؛ بل أن أفغانستان، لمن أراد أن يرى الحقائق كما هي، أيسر بكثير من أغلب قضايا العالم وصراعاته الراهنة. مشكلة أفغانستان أن أوباما جعل منها حربه الخاصة، بخياره وإرادته وإصراره، وأن إدارة الرئيس الذي وعد العالم بالتغيير وبناء سياسة أمريكية أكثر إنسانية وإيجابية، تنتهج سياسة لا توحي بالتغيير أو الإيجابية والإنسانية، أو حتى بأخذ معطيات الواقع الأفغاني في الاعتبار. منذ بداية حملته الانتخابية، أعلن المرشح أوباما أن الحرب على العراق كانت خطأً، وأن استمرار التعهدات العسكرية في العراق تضر بالمصالح الامريكية. ولكن موقف أوباما هذا لم يكن يعني إدانة شاملة لحروب بوش، بل تطويراً لمنطق حرب جديد. طبقاً للمرشح أوباما، ساهمت الحرب على العراق في تشتيت الجهد الامريكي في مواجهة الإرهاب والقاعدة، وأن السياسة الصحيحة، أو الحرب الصائبة، إن صح التعبير، هي الحرب في أفغانستان، حيث ينبغي إيقاع هزيمة قاطعة ونهائية بمقاومة طالبان وبناء أفغانستان من جديد، بلا طالبان ولا قاعدة. ولم يخيب أوباما الرئيس أملاً في وعوده الانتخابية، إذ سرعان ما عزز القوات الأمريكية في أفغانستان بثلاثين ألف جندي، وأصدر قراراً بتغيير قائد القوات الأمريكية، ودعا دول الناتو المشاركة في الاحتلال بإرسال تعزيزات عسكرية إضافية كذلك.ليس ثمة من سر في الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان. قائد القيادة الأمريكية المركزية، التي تعتبر أفغانستان ضمن دائرة عملياتها، هو الجنرال باتريوس، مهندس السياسة الأمريكية في العراق، التي أثبتت جدواها في الساحة العسكرية، وإن انتهت إلى إحداث خلل بالغ في الوضع السياسي العراقي لصالح إيران. أما الجنرال ماكريستال، قائد القوات الأمريكية الجديد في أفغانستان، فقد خدم من قبل في العراق، ويعتبر من خبراء الحروب غير التقليدية في الجيش الأمريكي. والواضح أن الاستراتيجية الامريكية تقوم على الإفادة مما بدا أنه نجاحات مميزة في المقاربة التي تبناها باتريوس ومجموعة الضباط التي التفت حوله في العراق؛ والتي تتلخص في إيقاع انشقاق في صفوف المقاومة الأفغانية، بناء قدرات أفغانية موالية للاحتلال، سواء بتأسيس جيش أفغاني كفؤ، أو تبني مجموعات أفغانية عشائرية أو طالبانية سابقة، تطهير مناطق معينة من سيطرة طالبان والبقاء فيها، ووضع استثمارات كبيرة في البنى الأفغانية التحتية وتنشيط الاقتصاد الأفغاني، بهدف إقناع الأفغان بأن ثمة مصلحة لهم في دحر طالبان وإحلال السلام في البلاد. في موازاة هذه الاستراتيجية، رفعت الإدارة الامريكية الغطاء عن كرزاي ومجموعته الحاكمة، مما أجبر الرئيس الأفغاني على الموافقة على إجراء دورة انتخابات رئاسية ثانية، وذلك بهدف التخلص من الفساد والفشل التي باتت حكومة كرزاي تجسده.استراتيجية أوباما الجديدة في أفغانستان محفوفة بالشكوك، بغض النظر عما إن كان الرئيس الامريكي سيأخذ قراراً بإرسال مزيد من القوات أم لا. وهذه هي الأسباب. في العراق، واجه الأمريكيون مقاومة باهظة التكاليف، ولكنها تشكلت من قوى وتنظيمات متعددة، بدون مركز قيادي سياسي واحد أو حتى مركز قيادي واضح، مما أفسح المجال للعب على التناقضات الصغيرة بين التنظيمات المختلفة. في أفغانستان، هناك قوة مقاومة رئيسية، ممثلة في حركة طالبان، يصعب، حتى في ظل حجم أفغانستان الكبير واحتمال وجود تباينات ما بين القيادات الطالبانية المحلية، القفز عليها. في العراق، وبالرغم من كل ادعاءات النجاح التي أطلقتها إدارة بوش، فليس ثمة شك في أن التراجع الذي فرض على المقاومة العراقية كان نتاجاً لبروز الصحوات وانشقاق القطاع الأكبر من عناصرها عن تنظيمات المقاومة العراقية. ما أدى إلى ولادة الصحوات، لم يكن ذكاء باتريوس أو قدراته الخارقة، بل أن أولى الصحوات ولدت حتى قبل تولي باتريوس قيادة قوات الاحتلال في العراق. والصحوات، وليس زيادة القوات في العراق، هي من حسم المعركة ضد المقاومة. كانت الصحوات، في الحقيقة، نتاج الواقع العراقي بالغ التعقيد، الذي جعل الكثير من عناصر المقاومة العراقية يضع أولوية للدفاع عن الوجود السني في بغداد الكبرى على مواجهة الاحتلال الامريكي، بعد انطلاق حرب التطهير الطائفية البشعة في 2006؛ كما كانت الصحوات نتاج العنف المفرط وطموحات الهيمنة التي تبنتها القاعدة في مناطق الأكثرية السنية من العراق. مثل هذا الوضع لا يوجد في افغانستان؛ والواضح أن المحاولات الجاهدة من قبل القوات الامريكية والبريطانية في جنوب وشرق أفغانستان لتشكيل قوات محلية مسلحة مناهضة لطالبان قد باءت بالفشل، أو صادفت نجاحات محدودة.صحيح أن هناك انقساماً في صفوف الشعب الأفغاني من الاحتلال، شبيهاً بالانقسام العراقي، وأن هذا الانقسام ساعد على إيجاد طبقة أفغانية حاكمة شبيهة بالطبقة العراقية الحاكمة. ولكن التشابه ينتهي هنا. ففي حين ساهم الانقسام العراقي مساهمة كبيرة في تشكيل قوات جيش وأمن، يغلب عليها الطابع الشيعي والكردي، لم تقل في مواجهتها للمقاومة عن قوات الاحتلال، فإن سيطرة الأكثرية البشتونية على الجيش الأفغاني الجديد، وافتقاد أفغانستان منذ عقود لتقاليد عسكرية نظامية راسخة، يجعل الجيش الأفغاني غير ذي أثر في الحرب الدائرة ضد حركة طالبان. وبخلاف المقاومة العراقية، تخوض المقاومة الأفغانية حروب مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال، تظهر قدرات تكتيكية تزداد تطوراً وكفاءة، وتمارس دوراً ظاهراً وملموساً في إدارة المناطق التي تسيطر عليها. في مثل هذا الوضع، تجبر قوات الاحتلال على خوض معارك حقيقية في بلاد هائلة الاتساع، تحتاج مئات الألوف من القوات لفرض سيطرة حقيقية عليها، وفي مواجهة شعب، تختلف قيمه وتقاليده اختلافاً شاسعاً عن قيم وتقاليد المحتلين. بل ان طالبان، وليس الوعود الامريكية في أفغانستان جديدة، هي الأقرب إلى التعبير عن القيم والتقاليد الأفغانية. وفوق الرفض الأفغاني عميق الجذور للوجود الأجنبي، ونفس الأفغان الطويل في مقاومة الاحتلال، فإن تجربة العراق أظهرت بوضوح أن هناك تلازماً بين وجود نظام الاحتلال الأجنبي ووولادة طبقة وطنية حاكمة فاسدة ومفسدة. قد ينجح الامريكيون في التخلص من كرزاي بالفعل، ولكن أحداً لا يتوقع أن يؤسس الحاكم الأفغاني المقبل لمصداقية تفوق مصداقية نظام كرزاي. أما إن وضعت الحرب في أفغانستان في إطارها الإقليمي، وارتفاع وتيرة العنف وعدم الاستقرار في باكستان، فإن الشكوك التي تحيط بالاستراتيجية الامريكية تصبح أثقل ظلاً.الحرب في أفغانستان هي في جانبها الأكبر حرب إمبريالية أخرى، مهما قيل عن الخطر الإرهابي المرتبط بالساحة الأفغانية. ولأن كل الحروب الإمبريالية تحمل بذرة التفاقم، فإن الحرب في أفغانستان تزداد اتساعاً، داخلياً وإقليمياً، وتدفع نحو تورط أمريكي أوسع. الحل هو في الاعتراف بأن هزيمة طالبان غير ممكنة، وأن طالبان تمثل قطاعاً واسعاً من الشعب الأفغاني، وأن الخطر النابع من تحالف القاعدة مع طالبان هو خطر مبالغ فيه. الحل، باختصار، هو التفاوض مع طالبان.’ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث