حكومة بينيت والأراضي “ج”.. بين “الضم الزاحف” والتخوف من الموقف الدولي

السبت 10 يوليو 2021 04:26 م / بتوقيت القدس +2GMT
حكومة بينيت والأراضي “ج”.. بين “الضم الزاحف” والتخوف من الموقف الدولي



القدس المحتلة /سما/

هآرتس - بقلم: شاؤول ارئيلي وموتي كريستال       "حكومة إسرائيل الجديدة تحوي داخلها فجوات سياسية وأيديولوجية ضخمة. فترميم الأنفاق التي تركتها حكومات نتنياهو وشركاؤه في أعقاب إضعاف الحكومة، وتآكل الديمقراطية، وتدمير النسيج الاجتماعي، هو التحدي الأول الذي يقف أمام حكومة بينيت – لبيد. ولكن فشل رؤية “إدارة النزاع” التي قادها نتنياهو يلزم الحكومة بأن تتخذ قراراً سياسياً بالسرعة الممكنة أساسه العودة إلى رؤية “حل النزاع”.

الفرق بين إدارة النزاع وحل النزاع هو في تركيز الوسائل. ففي إدارة النزاع يتم التركيز على خفض اللهب، وإطالة الزمن بين جولات القتال والفصل بين التطلعات الوطنية للفلسطينيين وبين التطلعات الشخصية لكسب الرزق وحرية الحركة، هذا من أجل تعزيز الاستيطان اليهودي وخلق ظروف لضم الضفة الغربية أو جزء منها. حل النزاع مقترن باتفاق دائم يطلب فيه من الطرفين التنازل عن جزء من طموحاتهما إلى الأبد، وفي الوقت نفسه يحصلان على إجابة عن المسائل الواقعة في جذور النزاع.

فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها في إطار إدارة النزاع. ففي قطاع غزة اضطرت إلى مواجهة حماس التي تتعاظم قدرتها، ومشروع الاستيطان في الضفة الغربية بعيد جداً عن تحقيق الشروط التي تسمح بالضم لإسرائيل، والعنصر الجغرافي في نظرية اليمين السياسي تلاشى عند استبدال ترامب ببايدن.

هذا الواقع السياسي يضع إسرائيل أمام الحسم بين اختيارين بالنسبة لنظامها. الخيار الأول هو أنه يمكن لإسرائيل أن تتمسك بسياسة الضم الزاحف، لكن هذا سيسرع دفعها نحو موقف المجذومة في المجتمع الدولي، وسيضر بالتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ويهدم العلاقات مع الأردن ومصر، وسيوصل حماس إلى موقف القيادة في م.ت.ف، وسيحول اتفاقات “إبراهيم” إلى شعار ميت وسيزيد التوتر القومي في أوساط عرب إسرائيل، وسيبعد يهود أمريكا عن إسرائيل، وسيزيد اللاسامية في العالم. العالم لن يتعود على الضم، خلافاً لادعاءات رئيس الحكومة، نفتالي بينيت. ستعتبر إسرائيل ذات نظام أبرتهايد، وسيتعامل المجتمع الدولي معها بحسب ذلك، بصورة ستجبي من إسرائيل ثمناً اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً باهظاً.

الخيار الثاني هو إمكانية دخول إسرائيل إلى عملية ترميم لعلاقاتها مع الفلسطينيين. تسوية موضوع قطاع غزة وتنفيذ خطوات تعزز استقرار وحوكمة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وتؤسس قيادة موحدة تمثل الشعب الفلسطيني، وتكون مستعدة لاستئناف المفاوضات والتوقيع على اتفاق دائم على قاعدة القرارات الدولية. هذه السياسة تكون مقترنة باستعداد قومي واسع للانفصال، سياسياً ومادياً، عن الفلسطينيين. كلما تمسكت إسرائيل بالخيار الأول وتجنبت الانتقال إلى الخيار الثاني، سيرتفع الثمن الذي ستدفعه. لذلك، يجب على الحكومة العودة إلى سياسة حل النزاع. ولكن يجب فحص جذور النزاع بيننا وبين الفلسطينيين.

في نظرية حل النزاع، مطلوب الاهتمام بفحص الوقائع، لكن الأكثر من ذلك يجب فهم التفسير الذي يعطى لها من الطرفين، والوعي العام المتشكل في ضوء ذلك خلال السنين.

الوعي الإسرائيلي مبني على رواية تعتبر “فلسطين – أرض إسرائيل”، التي تشمل فضاء أرض إسرائيل وشرق الأردن (مؤتمر سان ريمو من العام 1920)، الوطن القومي الذي وعد به بلفور الشعب اليهودي، الوعد الذي استند إلى الاعتراف الدولي باليهود كشعب له الحق الطبيعي في تقرير المصير في وطنه التاريخي، لكنه تجاهل العرب الذين شكلوا الأغلبية الحاسمة في أوساط سكان البلاد، بروح الأقوال التي كتبها وزير الخارجية البريطاني، جيمس بلفور، في آب 1919: “الصهيونية… هي ذات أهمية أعمق ببضع مرات من الطموحات والمواقف المسبقة للـ 700 ألف عربي الذين يعيشون في هذه البلاد القديمة”.

حسب الرواية الإسرائيلية، فإن الحركة الصهيونية “تنازلت” منذ 1920 مرتين لصالح العرب: الأولى كانت في 1922 عند إخراج شرق الأردن من سريان وعد بلفور، وتأسيس إمارة شرقي الأردن. ولكن الحقيقة التاريخية هي أن وزير المستعمرات البريطاني، ونستون تشرتشل، عاد في 1922 وأكد: “حكومة جلالة الملك تريد لفت الانتباه إلى حقيقة أن صيغة التصريح الدولي (وعد بلفور) لا تعني أن فلسطين بكاملها ستتحول لتصبح وطناً قومياً لليهود، بل سيقام هذا الوطن القومي في فلسطين”. وهكذا، حصلت الخطوة البريطانية على مصادقة عصبة الأمم.

التنازل الثاني كان في الموافقة على قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947، الذي تقرر فيه أنه إلى جانب الدولة اليهودية التي ستمتد على 55 في المئة من مساحة البلاد، ستقام أيضاً دولة عربية على 45 في المئة من المساحة. ولكن الحديث لا يدور هنا عن تنازل من قبل الحركة الصهيونية. أولاً، دافيد بن غوريون هو الذي طرح اقتراح التقسيم في رسالته التي أرسلها إلى وزير الخارجية البريطاني، آرنست بيفن، في شباط 1947: “التسوية الفورية الممكنة والوحيدة هي إقامة دولتين (في أرض إسرائيل)، واحدة يهودية والثانية عربية”.

ثانياً، الحدود التي تم اقتراحها في اقتراح التقسيم كانت هي الطريقة الوحيدة لمنح المساحة الأكبر للدولة اليهودية دون خرق وعد بلفور وصك الانتداب. اشترط فيهما أن تقام الدولة اليهودية “مع الحفاظ على الحقوق المدنية والدينية لكل سكان فلسطين، دون فرق في العرق والدين”. بسبب الميزان الديمغرافي في فلسطين الذي كانت نسبته 2: 1 لصالح العرب، فإن حدود التقسيم خلقت في المنطقة التي سيتم تخصيصها للدولة اليهودية أغلبية يهودية ضئيلة، 55 في المئة، والتي استهدفت التمكين من وجود هوية يهودية للدولة في نظام ديمقراطي. بن غوريون أحسن ترسيخ مكانة قرار التقسيم بالإعلان عن إقامة الدولة “على أساس قرار هيئة الأمم المتحدة”.

من هذه النقطة فصاعداً، سعت قيادة إسرائيل إلى توسيع حدودها طبقاً للظروف. وإن رفض عرب البلاد الموافقة على قرار التقسيم وشن الحرب مع الدول العربية، مكن إسرائيل من توسيع حدود الدولة وجعلها تصل إلى 78 في المئة من مساحة فلسطين. في حزيران 1948 أعلن بن غوريون في جلسة الحكومة بأن: “قرار 29 تشرين الثاني مات. الحرب ستقرر حدود الدولة”. وبعد 19 سنة على ذلك، بخطوة غير مسبوقة، اعترفت الأمم المتحدة (القرار 242، بعد حرب الأيام الستة) بهذه الحدود (الخط الأخضر)، وطالبت بانسحاب إسرائيل في إطار اتفاق سلام فقط من مناطق احتلت في العام 1967.

الرواية الفلسطينية مختلفة كلياً. ويجب علينا أن نتعرف عليها حتى لو كنا لا نتفق معها. بعيون فلسطينية، يكمن جذر النزاع في وعد بلفور الذي أعطي للشعب اليهودي الذي لم يكن يعيش في بلاده، وليس لعرب البلاد الذين كانوا يشكلون الأغلبية المطلقة فيها. هذا خلافاً لفكرة تقرير المصير التي نصت بعد الحرب العالمية الأولى على أن “الأرض تعود لسكانها وليس لمحتليها”.

في كتابه “قضية فلسطين”، كتب إدوارد سعيد، وهو من كبار المفكرين الفلسطينيين، عن وعد بلفور: “هو تصريح لا يمكن تخيل قوته إلا من قبل الذين يدركون بوضوح تركيبة السكان والواقع الإنساني في فلسطين”. وفي ميثاق م.ت.ف من العام 1964 قيل إن “العدوان ضد الشعب الفلسطيني وأرضه بدأ في العام 1917”.

حسب الرؤية الفلسطينية، فإن كل الأحداث منذ العام 1917، بما في ذلك حرب 1948، كانت سلسلة من الخطوات للدفاع الذاتي عن حقوقهم التي سلبت في 1917. رفض الفلسطينيون طوال سنوات القرارات الدولية التي تعترف بحقوق الشعب اليهودي، ورفضوا كل اقتراحات تقسيم البلاد. وقد أعلن جمال الحسيني، ممثل اللجنة العربية العليا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيسان 1948: “قلنا للعالم بأننا لا نوافق على تقسيم فلسطين الصغيرة، وأننا ننوي المحاربة ضده (قرار التقسيم)”. وفي العام 1964 كتب في الميثاق الفلسطيني: “تقسيم فلسطين من العام 1947 وإقامة إسرائيل هي باطلة من أساسها”.

ثم حدث تغيير مبدئي ومهم في الموقف الفلسطيني في تشرين الثاني 1988، عندما وافقت م.ت.ف على قرار التقسيم الذي يعترف بدولة يهودية وقرار 242 الذي يتضمن سيادة إسرائيل في المناطق التي تم احتلالها في حرب الاستقلال. وبعد 71 سنة، انتقل الفلسطينيون من خطاب يقوم على الحقوق المبدئية، على رأسها الحق في تقرير المصير في كل فلسطين – أرض إسرائيل، إلى خطاب يقوم على القرارات الدولية، وترسخت لديهم رؤية حديثة لتسوية النزاع: “رؤية الـ 78 – 22”. حسب رأيهم، هم تنازلوا عن الـ 78 في المئة من “وطنهم فلسطين” لصالح تأسيس دولة فلسطين على 22 في المئة من أراضيها دون أي سنتم أقل من ذلك. أحمد قريع (أبو العلاء) قال في العام 2000: “خطوط 1967 هي الحدود… سنكون مستعدين للحديث عن تغييرات ضئيلة في هذه الخطوط شريطة أن تكون متبادلة ومتساوية بصورة مطلقة في الجودة والمساحة”.

التوتر بين رواية إسرائيل ورواية الفلسطينيين طرح مرة تلو الأخرى في محاولة للتوصل إلى حل للنزاع في حكومة إيهود باراك (كامب ديفيد في 2000)، وحكومة إيهود أولمرت (أنابوليس في 2008). لماذا؟ لأن الرواية التي تجذرت في وعي الإسرائيليين بعد حرب الأيام الستة ارتفعت درجة حتى عملية أوسلو: أراضي الضفة والقطاع تحولت من “أراض محتلة” إلى “أراض مختلف عليها”. وأصبح ضم شرقي القدس حقيقة ثابتة. وعلاوة على ذلك، قال إسحق رابين داخل الكنيست في تشرين الأول 1995: “ستكون حدود دولة إسرائيل ما وراء الخطوط التي كانت قائمة قبل حرب الأيام الستة… في المقام الأول، القدس موحدة”. قبل مؤتمر كامب ديفيد، اعتقد إيهود باراك أن هدف المفاوضات هو “تقسيم عادل لأراضي يهودا والسامرة”. ومؤخراً، اقترحت “صفقة القرن التي جاء بها ترامب، بتوجيه من نتنياهو، أن يتم القضم بصورة فظة من الـ 22 في المئة التي تعتبر بالنسبة للفلسطينيين القليل الذي بقي.

العقد الأخير، الذي تميز بالجمود السياسي وسيطرة إسرائيل على مناطق “ج” التي تمتد على 60 في المئة من أراضي الضفة، نتجت عنه تصريحات أعادت الوعي الإسرائيلي خطوة أخرى إلى الوراء: تعتبر مناطق “ج” الآن في نظر الإسرائيليين أراضي تعود لإسرائيل، وهكذا يكرر بينيت الرغبة في ضمها، وليس هي فقط. هذه مناطق محتلة. ولكن الوعي الإسرائيلي الجديد الذي تطور على خلفية هذه التصريحات، يعتبر ضم مناطق “ج” خطوة معقولة لأنه 450 ألف يهودي ونحو 100 ألف فلسطيني يعيشون في هذه المناطق، وإن كان أكثر من نصف الأراضي بملكية فلسطينية خاصة.

بمفاهيم المفاوضات، من الواضح أنه لا يوجد “فضاء للاتفاق” في هذا الواقع . ليس فقط بين مواقف الطرفين، بل بالأساس بين الرؤى التي تحدد الوعي العام. وحتى الآن، البشرى الجيدة هي أن مجال الاتفاق أو النضوج السياسي للاتفاق تبقى أموراً ديناميكية. أولمرت، على سبيل المثال، الذي هو صهيوني تنقيحي، عرف أنه ليس بالإمكان تحقيق جميع أهداف الصهيونية الثلاثة، وهي: أرض إسرائيل، والديمقراطية، والأغلبية اليهودية. وقال لصحيفة “معاريف” في العام 2012: “من المفهوم أنه إذا تمكنت من العيش في كل جزء من أرض إسرائيل، والعيش بسلام مع جيراننا، والحفاظ على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، وأيضاً الحفاظ عليها كدولة ديمقراطية، وأيضاً الحصول على دعم من جميع المجتمع الدولي، عندما كنت سأفعل ذلك… ولكن هذا غير ممكن، فالقيادة المسؤولة يجب عليها أن تستخلص الدروس المطلوبة والتخلي عن السياسة الشعبوية الرخيصة والتصرف بمسؤولية وعقلانية وعدم البحث عن شعبوية سريعة وسهلة”.

 ومن الجانب الثاني هناك تبصر ودعوة للتمسك بمواقف براغماتية. “نحارب إسرائيل ونسعى إلى القضاء عليها، في الوقت الذي أصبحت فيه حقيقة واقعة وكياناً فعلياً، ولها علاقات دولية وعلاقات صداقة مع كل دول العالم”، كتب في 2018 أسامة يماني، رجل القانون الذي له عمود في صحيفة “عقاب” السعودية.

وماذا بعد؟ من المهم مواصلة زيادة المعركة، وأن نعرض على الجمهور رواية الطرف الآخر. حسب “مؤشر السلام” الأخير الذي نشرته جامعة تل أبيب (أيار 2021)، على الرغم من أن 57 في المئة من الجمهور يؤيدون إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين، فإن 68 في المئة لا يعتقدون أنها ستؤدي إلى سلام مع الفلسطينيين. أيضاً على الرغم من أن 63 في المئة يعارضون “استمرار الوضع القائم” فإن 46 في المئة يعتقدون أن له الاحتمالية الأعلى للاستمرارية والوجود. عندما تفهم القيادة والجمهور مصدر النزاع، حتى لو لم يوافقوا أو يقبلوا موقف الطرف الثاني، فثمة ثغرة تفتح للتغيير. التوقعات من المفاوضات أصبحت واقعية. والأثمان المطلوبة للتوصل إلى اتفاق دائم أصبحت مفهومة أكثر. والتصريحات التي تشكل الرأي العام أصبحت مسؤولة ومتزنة أكثر. “إدارة النزاع”، أو باسمها الآخر “استمرار الوضع القائم”، أصبحت باهظة جداً وزائدة. والطريق إلى تسوية النزاع تم شقها.