نشر موقع مجلة “فورين أفيرز” مقالا لرشيد الخالدي، أستاذ كرسي إدوارد سعيد بجامعة كولومبيا، تحت عنوان “لا يمكن ولن يتم تجاهل الفلسطينيين” داعيا لإحياء الحركة الوطنية الفلسطينية التي يمكنها قلب الوضع الراهن.
وقال إن العنف الشديد في إسرائيل وفلسطين بأيار/ مايو لم يختلف عن عنف العقود الماضية، والشيء الجديد فيه هي الوحدة الفلسطينية الجديدة في كل مكان.
فقد خرج الفلسطينيون معا في تحد للانقسامات التي فرضتها إسرائيل عليهم والسياسة الحزبية ضيقة النظر لقادتهم. وقاموا بتظاهرات في كل أنحاء البلاد ردا على سياسة القمع الإسرائيلية في حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى وقصف غزة الذي خلف أكثر من 250 شهيدا. وحاولت إسرائيل سحق هذه التظاهرات مما أدى إلى عنف الغوغاء الذي استهدف تحديدا الفلسطينيين في داخل إسرائيل بعكا وحيفا ويافا وقتلت القوات الإسرائيلية العشرات في الضفة الغربية.
وفي 18 أيار/ مايو نظم الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة والقدس وداخل إسرائيل والشتات إضرابا عاما، وهو الأول الذي شمل كل فلسطين التاريخية منذ الإضراب العام في عام 1936 والذي استمر ستة أشهر.
لكن الأوراق ما زالت كلها ضد الفلسطينيين، فالحكومة الإسرائيلية الجديدة لا تختلف عن سابقتها ولا ترغب بوقف الانتهاكات بشكل يجعل من تحقيق تسوية مقبولة منظورا بعيدا. إلا أن فورة الجيل الفلسطيني الجديد تقدم بعض الأمل، ويمكن لحركة وطنية فلسطينية منتعشة أن تبدد الافتراضات حول فشل الأجيال السابقة، وذلك عبر الفعل والرسالة الواضحة وبشكل يكشف عن عدم إمكانية استمرارية الوضع الراهن.
وقال إن المعلقين والسياسيين أعلنوا وعلى مدى السنين الماضية عن هزيمة الفلسطينيين وانحطاط معنوياتهم وأن قضيتهم لم تعد مهمة أو بارزة. وحاولت إدارة دونالد ترامب ترجمة هذه المواقف إلى سياسات معادية وبقوة ضد الفلسطينيين وأكثر من الإدارات السابقة. وكان هذا الهدف القائم على إمكانية تناسي الفلسطينيين بسهولة أساسا لعمليات التطبيع في عام 2020 بين إسرائيل ودول عربية. ولكن الانتفاضة في الضفة الغربية وفي عموم البلاد والإضراب العام وتضامن الفلسطينيين في الشتات أعطى رسالة واضحة وهي أنه لا يمكن تجاهل الفلسطينيين.
ولأول مرة لم تردد الصحافة والتغطية التلفزيونية الغربية المواقف الإسرائيلية عن الإرهاب الفلسطيني الذي لا يميز ضد المدنيين، وتحميل الفلسطينيين مسؤولية إثارة الحرب مع انطلاق أول صاروخ لحماس باتجاه إسرائيل، بشكل يمحو 54 عاما من الاحتلال العسكري الإسرائيلي و73 عاما من التشريد الفلسطيني.
وعوضا عن ذلك ظهرت الأشكال المزمنة من الظلم والانتهاك وبشكل واضح في الإعلام الرئيسي وعلى منصات التواصل الاجتماعي. فقد شرحت عدة تقارير أن عائلات الشيخ جراح المهددة بالطرد من المستوطنين اليهود وبدعم من قوات الأمن الإسرائيلية هي نفسها لاجئة من حيفا وعكا في عام 1948. وحاولت التقارير الإعلامية تقديم موازنة بين حرمان الفلسطينيين من استعادة ممتلكاتهم التي صودرت منهم في عام 1948 والسماح للمستوطنين باستعادة ما كان اليهود يملكه في القدس كما يزعم المستوطنون.
وإلى جانب الإعلام ظهرت صحوة لدى الناس في الغرب وتفهم للواقع السياسي في فلسطين. فمن يعتذرون عن إسرائيل في واشنطن ولندن وبرلين كانوا يهرولون ويلوحون بالكليشيه عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، لكنهم لم يكونوا قادرين على تغطية الحقيقة وتغير النبرة السياسية في المعترك السياسي وفي التظاهرات الحاشدة الداعمة للفلسطينيين في أستراليا وكندا وبريطانيا والولايات المتحدة ومناطق أخرى.
ولأول مرة في الدول الأربع التي تشترك بميراث تشريد الفلسطينيين، ظهرت في النقاشات الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية في السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. وحاول الناشطون تقديم الاضطهاد الموازي الذي برز في حركة حياة السود مهمة بالظلم الفلسطيني، فالكثير من الناشطين الأمريكيين الشباب يربطون اليوم ما بين الظلم الذي تعرضوا له في أماكن مثل فيرغسون، بميسوري وما شاهدوه في الشيخ جراح والمناطق الأخرى التي تستخدم قوات الأمن نفس الغاز المسيل للدموع المصنع في الولايات المتحدة ونفس الأساليب التي تستخدمها الشرطة والقوة المفرطة.
ويستدرك خالدي بالقول إن الرأي العام والتغطية الصحافية انحرفت في السابق للجانب الفلسطيني، وكل هذا لا يعلم تحولا سياسيا ذا معنى. فقد حصل هذا التحول في حصار بيروت عام 1982 والانتفاضة الأولى عام 1987 وخلال الحروب الثلاث ضد سكان غزة المحاصرين من 2008- 2014 والتي قتل في الأخيرة منها أكثر من 2.400 شخص. وفي كل مرة تجتهد شبكة العلاقات العامة وأصدقاء إسرائيل لإصلاح الشاشة المشوشة ومنع التدقيق الحقيقي في الممارسات الإسرائيلية. وهناك جهود محمومة تجري الآن ولكن هناك أسبابا تدعو إلى أن الوضع مختلف هذه المرة.
وتساءل خالدي إن كنا أمام لحظة تحول مهمة، ويجيب أن الاضطرابات الأخيرة جلبت معها لحظة مهمة، من خلال التحول في الرأي العام والوحدة الفلسطينية الناشئة على المستوى الشعبي. وهي لحظة تمنح الفلسطينيين الفرصة لإعادة بناء حركتهم الوطنية وتوحيد صفوفهم والتوافق على أجندة استراتيجية يمكنهم من خلالها التواصل على المستوى العالمي.
ومن أجل تحقيق هذه المهمة الكبيرة فهم بحاجة لتجاوز البنى السياسية، وبالتحديد الإطار الذي نشأ بسبب اتفاقيات أوسلو، بما في ذلك السلطة الوطنية التي أنتجت جيلا من القادة الفاشلين والحكم القمعي والفساد القائم على المحسوبية وقمع الحشد الشعبي وغياب استراتيجية التحرير.
ويبدو الحزبان السياسيان اللذان طغيا على السياسة الفلسطينية -فتح وحماس- ضعيفين من الناحية البنيوية وأقل شعبية مما كانا عليه في السابق، رغم ما يتلقيانه من دعم خارجي. وهذا صحيح حتى لحماس المزدهرة حاليا، والتي توقعت استطلاعاتها الداخلية إمكانية خسارتها في انتخابات أيار/ مايو والتي أجلها رئيس السلطة الوطنية الذي انتهت فترته القانونية قبل عقد.
وأكد خالدي أن الجيل الجديد الشاب من الناشطين الفلسطينيين لا وقت لديه للشعارات والسياسة والقيادة القديمة. ويعمل الناشطون بنفس الموجات خلال فلسطين والشتات، حيث يقوم الناشطون بأخذ المبادرة السياسية اليوم بشكل يشعل مرحلة جديدة من جهود تحرير فلسطين كما فعلوا مرارا في السابق.
فقد كانوا وراء الإضراب العام في 1936 وانتفاضة 1987 مثلا. وسيجدون صعوبة في التخلص من القيادات القديمة والمؤسسات المالية والأمنية التي تحميهم، لكن الموجة تنحرف، كما هو واضح من الغضب الذي وجه ضد القيادة الفلسطينية بعد مقتل الناقد للسلطة الوطنية نزار بنات، الذي مات أثناء اعتقال الأمن له في حزيران/ يونيو مما أشعل اضطرابات واسعة كشفت عن هشاشة سيطرة هذه القيادات على السلطة.
وقال خالدي إن استعداد الكثير من الأمريكيين القيام بنظرة عميقة وباحثة في إسرائيل وفلسطين مشجع أيضا. وهناك العديد من الشباب اليهود الأمريكيين الناقدين أكثر من قادتهم للأسطورة القديمة التي حمت إسرائيل من النقد، وفكرة أن “الرب منح هذه الأرض للإسرائيليين” وأن فلسطين قبل نشوء إسرائيل “أرض بلا شعب” وأن إسرائيل هي التي “جعلت الصحراء تزهر” وأن “إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
وكان إعلام التواصل الاجتماعي متقدما على الإعلام الرئيسي من ناحية نشره أشرطة فيديو عن استخدام الأمن الإسرائيلي القنابل المسيلة للدموع والصوتية في المسجد الأقصى أثناء إقامة المصلين شعائرهم في شهر رمضان، وصور الغوغاء اليهود وهم يتجولون في الأحياء العربية بالقدس والمدن الإسرائيلية الأخرى وتدمير أبراج سكنية في غزة وإطلاق الجيش الرصاص الحي على المتظاهرين في الضفة الغربية، وهذه صور لم تكن تشاهد من قبل.
وساعدت الصور الحية لاختراق الشرنقة التي حافظت وبولاء تام على التغطية خلال 54 عاما مؤكدة على أسطورة الاحتلال العسكري “المؤقت” ونظام السيادة في داخل إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. وأصبحت مصطلحات مثل “العنصرية المنظمة”، “التفوق اليهودي” و”الاستعمار الاستيطاني” و”الأبارتيد” جزءا من الحوارات في أمريكا والقطاع اليساري الإسرائيلي. ولا يزال هو الحال رغم محاولات أنصار إسرائيل المتزايدة تصوير الداعمين للفلسطينيين أو نقاد سياسات دولة أجنبية بمعاداة السامية.
ويمكن أن يؤدي التغير في الخطاب داخل أمريكا وأوروبا إلى تداعيات قوية رغم عدم حدوث تغير مباشر في السياسة. وقد تقود في النهاية لتراجع الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي الذي تمتعت به إسرائيل من حلفائها في الغرب. وربما بدا كل هذا جديدا ويشكل نقطة تحول إلا أن الكثير لم يتغير، ففي الولايات المتحدة وعلى المستوى العالمي هناك التزام غير منطقي بمظهر “حل الدولتين” والداعي لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل وكوسيلة لتحقيق السلام الدائم في المنطقة. لكن دعاة حل الدولتين يرفضون الاعتراف بالشرط الأساسي: وهو تدمير العقبات البنيوية الضخمة، المادية والإدارية التي أقامها قادة إسرائيل من كل الطيف السياسي منذ عام 1967 لمنع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.
وتضمنت الجهود المنهجية الضم الفعلي لمعظم المناطق المحتلة ونقل غير قانوني لحوالي 750.000 مستعمر أي حوالي 10% من سكان إسرائيل إلى هذه المناطق وفي سياق بناء مستوطنات استعمارية ضخمة وشوارع خاصة وأنظمة اتصالات، وهو أكبر مشروع إنشائي في تاريخ البلد بمرحلة ما بعد 1976.
وبدون وقف عمليات الضم الزاحفة لما تبقى من أرض فلسطينية ضمن إسرائيل الكبرى- الهدف الذي تسعى إليه كل الأحزاب الإسرائيلية بمن فيهم 100 عضو من 120 عضوا في الكنيست، مما يجعل الحديث عن حل الدولتين مجرد ورقة تين لتغطية استمرار تشريد الفلسطينيين. وفي الوقت الحالي لا يوجد أي جهد من المجتمع الدولي لإزالة الحقائق على الأرض التي قامت بها إسرائيل لمنع قيام دولة فلسطينية. ولكن المقاومة العنيدة من الفلسطينيين لجهود تشريدهم ومحوهم من التاريخ ربما أدت إلى نقطة تحول.
وهناك معيار جديد برز يدعو للحقوق المتساوية للفلسطينيين والإسرائيليين، جماعة وأفرادا. وسواء تم هذا من خلال حل الدولتين غير المحتمل أو الدولة ذات القومية الواحدة أو الفدرالية، الكانتونات أو أي إطار آخر. وهناك عدد من الفلسطينيين والإسرائيليين يبحثون في الأمور التي تعيق حل الدولتين ويستكشفون خيارات بديلة.
ويحتاج الداعون إلى هذه البدائل لتقديم عروض شاملة وكيفية تطبيقها قبل أن تحصل على دعم. ولكن معارضة إسرائيل لحل الدولتين تجعل وبشكل يدعو للتناقض الظاهري من البحث عن هذه البدائل أمر محتوما. ويقلل الكاتب من تأثير هذا المعيار الجديد البارز، وفي المدى القصير على السياسات الأمريكية والدول القوية الأخرى. فالساسة الأمريكيون وخبراء السياسة الخارجية والصهاينة الليبراليون ومعظم اللاعبين الدوليين لا يزالون متمسكين بحل الدولتين ولن يسمحوا باستبداله.
وفي الوقت نفسه أظهر اللاعبون الدوليون وبخاصة الولايات المتحدة ترددا للحد من جهود إسرائيل الرامية لمنع قيام دولة فلسطينية، وهو ما يعطي إسرائيل الفرصة لمواصلة “الإدارة” الوحشية للمشكلة الفلسطينية وفي الوقت نفسه منع التقدم نحو حل حقيقي. وهو نهج أتقنه رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو بمهارة وخلال فترة حكمه الطويلة.
وستواصل حكومة نفتالي بينيت الجديدة نفس نهج الحكومة السابقة، فهي مشكلة من أحزاب متفرقة مما يجعل من الإجماع حول القضية الفلسطينية مستحيلا. وهناك قوة متطرفة في الكنيست تدعو لمواصلة استعمار الأراضي المحتلة وحرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية. وهذا الموقف المتطرف يعتبر أكبر عقبة أمام التغيير. وحتى لو تطور المعيار الجديد فسيكون من الصعب إقناع اليهود الإسرائيليين بتغيير الوضع الراهن المتحيز ضد الفلسطينيين. لكن هؤلاء لديهم القدرة على قلب الوضع الذي لا يمكن استمراره بشرط ظهور حركة وطنية فلسطينية منتعشة. ويرتبط ظهورها بتحول سياسي صعب وعملية تقييم عقلانية للإستراتيجية والأهداف- ربما عبر انتخاب قادة شباب جدد يستطيعون رسم نهج طازج.
وهذا يحتاج إلى عدد من الجهود الكبيرة، فعلى الفلسطينيين الكشف وبقوة وبطريقة سلمية عدم صلاحية الوضع القائم كما فعلوا أثناء انتفاضة 1987 – 1991. وهم أمام خيار إما إحياء الإمكانيات الساكنة لدولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل أو، وهو الأكثر احتمالا، رسم مستقبل للفلسطينيين ضمن بنية ما بعد الاستعمار بشراكة مع الجيران الإسرائيليين. وعلى اللاعبين الخارجيين الذين يستمتعون بتأثيرهم على وكلائهم الفلسطينيين عدم مقاومة التغيرات، ولكن الفلسطينيين أظهروا في الماضي قدرة على تجاوز التدخلات الخارجية، كما فعلوا أثناء قيادة ياسر عرفات ما بين الستينات والثمانينات من القرن الماضي.
ويقول إن التغيرات الإيجابية التي شاهدناها على مستوى الخطاب العالمي المتعلق بفلسطين هي نتاج الجهود التي قامت بها مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية ومبادراتها وجهود الناشطين على الأرض في فلسطين والولايات المتحدة وأماكن أخرى. وسيتضاعف الأثر على إسرائيل من خلال حركة فلسطينية وطنية ديمقراطية منتعشة يقودها جيل جديد وتقوم على أهداف سياسية قوية.
وستؤدي عملية توصيل الرسالة السياسية الفلسطينية القوية المتجذرة في المساواة والمدعومة بالتحرك السياسي والدبلوماسي والجماهيري إلى الكشف عن عدم قابلية الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين. وفي النهاية، ربما كان التحول في المجتمع والسياسة الفلسطينية بطيئا وربما حدث بشكل سريع وقد لا يحدث أبدا. وبدون هذه التحولات فالمواجهة المتجمدة بين إسرائيل والفلسطينيين ستستمر بالذوبان لكن ببطء.
وعلى أية حالة فقد ظهر واضحا أن النظام الاستعماري الذي عفا عليه الزمن، مثل النظام الإسرائيلي والقائم على تفوق جماعة إثنية على أخرى، لا يتوافق مع قيم الديمقراطية والمساواة. ورغم الخلاف عليها إلا أنها تظل القيم الرائدة في القرن الحادي والعشرين. وحركة وطنية فلسطينية متطورة تجعل من هذه القيم في قلب قضيتها ستترك أثرا إيجابيا محليا وعالميا.