تابعنا خلال الأيام القيلة الماضية عبر صفحات التواصل الاجتماعي، حالة من الجدل والاستهجان أثارها تعميم صادر عن وزارة الأوقاف والشئون الدينية بقطاع عزة بتاريخ: 15 ديسمبر 2020، يتمحور حول موضوع فعاليات الإدارة العامة للوعظ والإرشاد للحد من التفاعل مع الكريسماس، من خلال فتوى عدة أنشطة وفعاليات تنوي الوزارة تنفيذها قبيل أعياد الكريسماس، من بينها نشر دعوة الكترونية، ومادة فيديو تفاعلية، فتاوى متعلقة بالموضوع وحديث دعوي، بالإضافة لمخاطبة وزارتي الداخلية والاقتصاد، والقيام بجولات ميدانية دعوية ونشاطات أخرى. ما دفع الوزارة بتاريخ: 19 ديسمبر 2020 لإصدار توضيح حول التعميم أو المراسلة الداخلية مثيرة الجدل، حاولت من خلاله التأكيد على عمق العلاقة التاريخية، وعلى ضرورة عدم تحميل الكلام ما لا يحتمله.
وفي هذه الأسطر نود تبيان التداعيات التي يحملها هذا الفهم، وبالأخص تداعياته على قيم التسامح والسلم الأهلي والمجتمعي، اللذان يعتبران صمام لأمان كل مجتمع وبالأخص في حالتنا التي أحوج ما تكون لتدعيم هذه القيم، وتتويجها بالوحدة والمصالحة بين مختلف القوى والتيارات في مواجهة عدو لا يفرق ما بين هذا أو ذاك، عدو دنس ويدنس كل المقدسات المسيحية قبل الإسلامية، وخير شاهد على ذلك باحات المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
وعن التعددية والتسامح، فقد نص إعلان مبادئ التسامح الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، بتاريخ: 16 نوفمبر 1995، على أن التسامح يعني "الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا". وهو أيضاً "اتخاذ موقف ايجابي يتضمن الإقرار بحق الآخرين، بالتمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالمياً على قدم المساواة ودونما أي تمييز على أي أساس. وللتسامح صوراً متعددة منها: التسامح الديني والتعايش فيما بينها، بما في ذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية ونبذ التعصب والإكراه على أساس الدين، والتسامح السياسي القائم على نظم الديموقراطية والتداول في الحياة السياسية والاحتكام لسيادة القانون، بالإضافة للتسامح الفكري والثقافي وبما يعنيه من نبذ التعصب للأفكار واحترام اختلاف الرأي والتعبير.
أما عن السلم الأهلي والمجتمعي، فهو ببساطة واختصار يعني رفض كل إشكال الاقتتال، أو مجرد الدعوة إليه أو التحريض عليه، أو تبريره لأي سبب، وأي كان شكل الأداة والوسيلة، بما في ذلك تحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى إيديولوجية الخلاف، ما من شأنه تأجيج المشاعر وشحن الأجواء، وتقسيم أبناء المجتمع الواحد إلى ملل وفرق وطوائف كل من يتعصب لرأيه ومذهبه، ويدعي أنه يمثل الصواب ويمتلك الفضيلة والحقيقة المطلقة.
يرتكز السلم الأهلي والمجتمعي على مجموعة من المبادئ الناظمة، من بينها التأسيس لثقافة الديمقراطية، وإرساء دعائم التلون والتعددية والحوار، والأهم من ذلك تبني نمط بنيوي مؤسساتي يعزز روابط السلم الأهلي، ويشجع عليه ما بين التيارات الفكرية والدينية والسياسية على اختلافها، على قاعدة احتواء الأزمات قبل تحولها لانقسامات رأسية وأفقية مستفحلة، وانطلاقاً من أن الوطن يتسع للجميع، والبناء يحتاج لكل الطاقات والمعاول.
ولقد كفل القانون الأساسي الفلسطيني بتعديلاته كافة حقوق الإنسان بصريح العبارات في مواده المختلفة، إذ أكد على نبذ العنف، وصيانة التسامح والسلم الأهلي، فمثلاً المادة (6) منه، نصت على مبدأ سيادة القانون بوصفه أساس للحكم في فلسطين، والمادة (9) نصت على أن الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء، لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الإعاقة. وكذلك المادة (10) أكدت أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ملزمة وواجبة الاحترام، على أن تعمل السلطة الوطنية الفلسطينية دون إبطاء للانضمام إلى الإعلانات والمواثيق الإقليمية والدولية التي تحمي حقوق الإنسان، كما وكفلت المادة (18) حرية العقيدة والعبادة وممارسة الشعائر الدينية شريطة عدم الإخلال بالنظام العام أو الآداب العامة. وغيرها من المواد التي تعتبر بمثابة ضمانات لتعزيز حقوق وحريات المواطنين المكفولة. بما فيه كفالة أركان السلم الأهلي والمجتمعي والتسامح ونبذ العنف والفوضى.
في ضوء ما تقدم، فإن التعميم بصيغته التي جاء عليها يحمل شبهة الانحراف عن مبدأ المشروعية كركن أساسي ومتطلب في القرارات والتعميمات الإدارية، باعتباره ناظم لجميع الأنشطة داخل الدولة والتي يجب أن تكون متلائمة ومنسجمة مع النظام العام السائد، وبمعنى آخر فإن تطبيق مبدأ المشروعية يتعلق بنشاط الإدارة وتصرفاتها، التي يجب أن تكون متوافقة مع النظام العام والقانون وتحقيق غايته، المتمثلة بإرساء السلم الأهلي والمجتمعي وسيادة القانون، وفي جو من صهر النعرات والخلافات والتباينات على أي أساس. خصوصاً حينما يتعلق الأمر بتاريخ فلسطين، وبالوجه المشرق والمضيء لمسيحيها شركاء الأرض والقضية في كل المجالات والأزمان.
وقبل الختام هي دعوة لكل المسئولين وممثلي مؤسساتنا الوطنية الرسمية والأهلية، للتدقيق في قراراتهم وتعميماتهم وتصريحاتهم، والتفكير فيها ومراجعتها مراراً قبل اتخاذها ونشرها، فربما كلمة لا يُلْقِي لها بالاً _أي بدون قصد_، تصب في خانة مصلحة أعداء شعبنا والمتربصين فيه، وتهوي بمجتمع كامل في نار الحقد وتهديد النسيج الاجتماعي.
وفي الختام فإنني أتوجه بالتهنئة الحارة لإخواننا شركاء المصير من أبناء الطائفة المسيحية، بمناسبة احتفالات أعياد الميلاد المجيدة، آملين منهم الدعوات بتحقيق أمنياتنا جميعاً، وأستذكر تصريحات المطران عطا الله حنا: بأن القدس أمانة في أعناقنا، ومواقف الأب مانويل مسلم: القدس مدينة الله والمطبعون غرباء عنها، فهل فهمنا الدرس؟.