تعرضت إيران مؤخرا لعدة هجمات متتابعة في مواقع نووية وعسكرية كان أبرزها ما تعرض له مجمع نطنز النووي في أصفهان بتأريخ 1 يوليو تموز الجاري وقد كتبت قبل أيام تحليلا تحدثت فيه عن تلك الهجمات ودلالاتها وعن الرد الإيراني المتوقع ، كتبت ذلك التحليل قبل أن يصرح المتحدث باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمال وندي في6 يوليو تموز الجاري بأن الحادث في منشأة نطنز النووية وقع في مكان مخصص لإنتاج أجهزة طرد مركزية متطورة، وقد يتسبب في إبطاء مؤقت لعملية إنتاج أجهزة الطرد المركزية لكن السلطات المعنية قادرة على تجاوز ذلك.
حديث هذا المسؤول الإيراني أكد ما ذهبت إليه في التحليل الذي أكدت فيه أن ” هذه الهجمات المنظمة والتي تستهدف منشآت ايرانية حيوية وهامة تهدف إلى تعطيل أو إبطاء وتشويش برنامج ايران النووي قدر المستطاع بعد أن تسارعت وتيرته مؤخرا بعد تعليق ايران الكثير من التزاماتها وفق الاتفاق النووي الايراني وقيامها بتخصيب اليورانيوم إذ صار لدى إيران 1700 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب ” .
وبالأمس نشرت صحيفة ” نيويورك تايمز ” الأمريكية تقريرا مطولا حول هذا الحدث وفيه قال مسؤولان في المخابرات الأمريكية ، تمت إحاطتهما بالأضرار التي لحقت بالموقع النووي ” إن الأمر قد يستغرق من الإيرانيين ما يصل إلى عامين لإعادة برنامجهم النووي إلى المكان الذي كان عليه قبل الانفجار مباشرة ” .
كما أشار التقرير إلى دراسة أجراها معهد العلوم والأمن الدولي بواشنطن وقد خلصت إلى أنه على الرغم من أن الانفجار “ لا يقضي على قدرة إيران على نشر أجهزة طرد مركزي متطورة ”، إلا أنه “انتكاسة كبيرة” ستكلف إيران سنوات من التطور .
فهل فعلا ستحتاج إيران إلى سنوات لتعويض ما تم خسارته في هذا الانفجار ؟!
وهل سيعرقل هذا الانفجار برنامج إيران النووي لسنوات كما ذكر التقرير ؟!
وهل لدى ايران حاليا بدائل متاحة يمكنها من خلالها إصلاح ما تمت خسارته من أضرار في فترة وجيزة ؟!
في السطور القادمة محاولة للإجابة على هذه التساؤلات..
1- لقد توقعت في التحليل الذي كتبته أنه في أسوأ الحالات أن إيران ستحتاج من شهرين إلى 3 أشهر لتعويض ما تمت خسارته في مفاعل نطنز ، بنيت هذا التوقع على ما توفر لي حينها من معلومات وآراء لخبراء ومتخصصين لكن الجزم بأن هذا الانفجار سيعطل برنامج إيران النووي لسنوات هو مبالغات كبيرة جدا ذلك ان ما نقلته ” نيويورك تايمز ” عن مسؤولين في المخابرات الأمريكية لا يخرج عن كونه مجرد توقعات وحرب إعلامية نفسية موجهة ضد إيران في إطار ما اسمتها نيويورك تايمز ” استراتيجية أمريكية إسرائيلية جديدة لاستهداف برنامج إيران النووي ” ولا شك أن هذه التصريحات الإعلامية التي لا تستند لأي معلومات مؤكدة أو أدلة حقيقية هي جزء من الإستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية لاستهداف برنامج ايران النووي .
أما حديث الصحيفة عن أن ” صور الأقمار الصناعية الجديدة للمنشأة المنكوبة في نطنز تظهر أضرارا أكبر بكثير مما كان واضحا ” كما أن حديث معهد العلوم والأمن الدولي بواشنطن عن إظهار الأقمار الصناعية لصور حفرة بعمق 10 أمتار ومواد سقطت من سقف مدمر يؤكد ان الأضرار والخسائر هي أقل بكثير مما تحدثت عنه الصحيفة فهذه المنشأة الهامة هي تحت الأرض أصلا وبعمق يزيد عن 60 مترا ، فكيف تمكنت هذه الأقمار الصناعية وهي في الفضاء من تصوير ما حدث في باطن المنشأة ؟!
2- اذا افترضنا جدلا صحة ما ذهبت إليه صحيفة “هامشهري” الإيرانية شبه الرسمية والتي أشارت إلى ان “مستوى الدمار يقوي إمكانيه أنه عملية تخريب“. وقالت إن التخريب نفذه “مهاجمون تحركوا في الصحراء وفي عتمة الليل إلى نطنز في الساعة الثانية صباحا، لأنهم لا يريدون خسائر بشرية أو إحداث انبعاثات شعاعية”. وكذلك حديث الصحيفة عن ” خسائر مالية كبيرة ” فهذا السيناريو في حال صحته لا يعني أن من هاجموا المنشأة تكمنوا من تصوير الخسائر أو الإطلاع على حجمها ومن ثم اخبروا المخابرات الأمريكية بذلك إذ أن هذه الرواية في حال صحتها تؤكد وجود أيادي على الأرض قامت بهذا العمل التخريبي ولم يكن بسبب هجمات سيبرانية أو تم بالتعاون بين الأشخاص على الأرض والهجمات السيبرانية من بعد كما تثبت وجود تقصير في أمن هذه المنشأة ، كما أنه من المستحيل بقاء هذه العناصر على الأرض لرصد الخسائر بعد حدوث الانفجار فمن يستهدف منشأة نووية لاشك سيبتعد عنها كثيرا بعد تعرضها لانفجار لخطورة بقاءه بالقرب منها ناهيك عن بقاءه فيها لرصد الخسائر .!!
وهذه الرواية هي إحدى روايات عديدة فقد ذهب البعض إلى استبعاد تنفيذ هذا التخريب عبر أشخاص على الأرض وإنما تم قصفها بصاروخ من بعد أو بطائرة بدون طيار .
3- وجود خسائر مالية كبيرة أو خسائر في أجهزة الطرد المركزي والغاز المشغل لها لا يعني تعطل البرنامج النووي وأن إيران ستحتاج لسنوات لاستئناف النشاط النووي فالخسائر يمكن تعويضها والأموال يمكن الحصول عليها واجهزة الطرد المركزي سيتم تعويضها ولو بأجهزة أبطأ قليلا من الأجهزة التي تعرضت لتخريب وسيتم مواصلة تخصيب اليورانيوم ، كما أن منشأة نطنز هي منشأة واحدة من عدة منشآت نووية ايرانية ولا نستبعد أن يكون لإيران منشآت نووية سرية لا يعلم بها إلا القيادات العسكرية الكبيرة في إيران ، ذلك ان إيران تدرك منذ عقود ما يمثله هذا البرنامج من أهمية لها وأن العالم الغربي وكثير من الدول المحيطة بها سوف تسعى لتخريبه واستهدافه بشتى السبل والوسائل ولذا ستعمل على إبقاء الجزء الأكبر منه طي السرية والكتمان .
4 – هذا الاستهداف للمفاعلات النووية الإيرانية ليس الأول ولن يكون الأخير فقد تعرض هذا المفاعل لهجمات إلكترونية عديدة ففي عام 2010 استهدفت هجمات هذا المفاعل بفيروس ستانكسنت الذي يعتقد أن إسرائيل والولايات المتحدة تقف وراءه ، كما قالت المخابرات الإسرائيلية أنها قامت عام 2018 باقتحام مستودع في طهران وسرقة نصف طن من السجلات السرية التي توثق المشروع النووي الإيراني وتمكنت من إخراج السجلات من البلاد وهذه الرواية لو صحت تمثل اختراق أمني كبير لبرنامج إيران النووي وتؤكد سعى الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة وفي مقدمتهم إسرائيل لضرب برنامج إيران النووي وتعطيله واستهدافه بشتى السبل والوسائل تارة بالهجمات الإلكترونية السيبرانية وتارة بالعقوبات الأمريكية وبالقرارات الدولية وتارة برقابة وإشراف وكالة الطاقة الذرية وتعليماتها الصارمة وتارة باغتيال العلماء والخبراء الذين يعملون فيه وتارة بالشروط التي قيدت هذا البرنامج ب”الاتفاق النووي الإيراني” ومع هذا كله واصلت إيران برنامجها النووي وتجاوزت كل هذه العوائق والعقوبات والعراقيل كما واصلت برنامجها الصاروخي حتى صارت الصواريخ الإيرانية قادرة على الوصول إلى أوربا كما غزت الفضاء مؤخرا بقمر صناعي عسكري يعزز جهودها وانشطتها في هذا المجال ويوفر لها المعلومات المطلوبة فصار العالم كله تحت المجهر الإيراني .
5- هذه الهجمات التي استهدفت منشآت عسكرية ونووية وطبية في إيران وإصدار رئيسه هيئة القضاة في محكمة منطقة واشنطن الفيدرالية، القاضية بيريل هويل بالأمس قرارا يلزم إيران بدفع 879 مليون دولار تعويضاً للضحايا الذين سقطوا في تفجير استهدف في 1996 القوات الأميركية في مدينة الخُبَر السعودية، وأدى إلى مقتل 19 من أفراد القوات الجوية الأميركية، محمّلة طهران مسؤولية هذا التفجير ، كل هذه التحركات الأمريكية هي تصعيد جديد في إطار استراتيجية ” الضغوط القصوى ” التي تمارسها الولايات المتحدة ضد إيران وذلك بهدف اجبار طهران على التفاوض مع واشنطن وابرام اتفاق نووي جديد تقدم فيه طهران تنازلات كبيرة مقابل رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها أو تخفيفها حيث يمثل هذا الاتفاق صفقة كبيرة لترامب سترفع من حظوظه في الانتخابات الرئاسية القادمة وذلك بعد أن فشلت كل الضغوط الأمريكية القصوى في إجبار ايران على الجلوس مع الأمريكان على طاولة مفاوضات جديدة حول برنامجها النووي والصاروخي ونفوذها في المنطقة ولذا ستفشل هذه الهجمات الجديدة كما فشلت الضغوط السابقة فإيران تراهن على صمودها وعلى عامل الوقت وخسارة ترامب للانتخابات القادمة وفوز جو بايدن الذي وعد بإعادة تفعيل خطة العمل المشتركة ” الإتفاق النووي الإيراني ” خصوصا بعد تردي شعبية ترامب بسبب سوء ادارته لملفي جائحة كورونا وعنصرية الشرطة الأمريكية وغيرها من القضايا والملفات في الداخل الأمريكي وفي السياسة الخارجية الأمريكية .
6- هذه الهجمات تؤكد ان إسرائيل باتت تشعر بقلق كبير من البرنامج النووي الايراني بعد تسارع وتيرته مؤخرا كنوع من الضغط الإيراني على الأوربيين للوفاء بالتزاماتهم تجاه الإتفاق النووي الذي يريدون بقاءه دون تنفيذ ما عليهم من التزامات تجاه إيران ، كما تشعر إسرائيل بأن الدول العربية المحيطة بإيران عاجزة عن القيام بأي عمل يعطل قدرات إيران النووية أو العسكرية ولذا قررت التحرك بنفسها واستغلال ما بقي لترامب من أشهر في الرئاسة فقد تحمل رياح الإنتخابات الأمريكية القادمة منافسه جو بايدن للرئاسة الأمريكية فتخسر إسرائيل الضوء الأمريكي الأخضر لها باستهداف إيران وكذلك الدعم اللوجستي والعسكري والمخابراتي لها ضد إيران .
وبناء على هذه المعطيات فإن الرد الإيراني على هذه الهجمات سيكون مدروسا للغاية ولن يستهدف اشعال حريق كبير أو جر واشنطن وحلفاؤها إلى مواجهة عسكرية شاملة مع إيران وقد يكون الرد عبر الهجمات السيبرانية التي ستسهدف منشآت ومؤسسات أمريكية واسرائيلية أو قد يكون بمزيد من الاستهداف للقوات الأمريكية في العراق وحشد الرأي العام العراقي ضدها لاخراجها من العراق وقد يكون في تعزيز منظومة الدفاع السورية واستهداف أي طائرة إسرائيلية تحلق فوق الأجواء السورية وخاصة بعد توقيع اتفاق عسكري بين ايران وسوريا قبل أيام أو عبر هجمات خاطفة تستهدف السفن الأمريكية في الخليج دون ترك بصمات القوات الإيرانية عليها .
وفي الأيام القادمة ستتضح كيفية الرد الإيراني على هذه الهجمات لكن من المؤكد أن هذه الهجمات حتى لو تواصلت لن توقف برنامج إيران النووي ولن تعطله لسنوات كما تروج الصحافة الأمريكية وإنما ستعمل على إبطاء وتيرته لأشهر كما أنها لن تجبر إيران على الجلوس مع الأمريكان في مفاوضات جديدة يستفيد منها ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة..
باحث في الشأن الإيراني