هالة ليست ضحية "كورونا"، بل ضحية تأخير العدالة، ما حرمها من رؤية ابنها أو حتى سماع صوته هاتفياً. وقصتها واحدة من قصص كثيرة، تحدث كل يوم بسبب عدم قدرة بعض القضاة على النظر في قضايا مستعجلة
هالة ابنة صديقة زوجتي، سافرت قبل عام ونصف العام إلى بريطانيا لدراسة الماجيستير في الإدارة، ولتحقيق أحلامها بحياة جديدة مع عائلتها. قبل ذلك كانت تعمل في غزة في الصحافة، وسافرت باتفاق مع زوجها على أن يلحق بها بعد ثلاثة أشهر مع طفلهما البالغ من العمر وقتذاك ثلاثة أشهر، غير أن زوجها غيّر رأيه وظلت هالة في بريطانيا لاستكمال دراستها ومكثت سنة ونصف السنة حتى أنهت الماجيستير وحصلت على عمل في بريطانيا، وبدأت خطواتها الأولى بتحقيق أحلامها بمستقبل أفضل.
عندما غادرت هالة قطاع غزة تركت طفلها باتفاق مع زوجها في منزل والدها ووالدتها التي ربته مدة سنة ونصف السنة، وفي هذه الأثناء ساءت علاقة هالة مع زوجها، واتفقا على الطلاق وعادت من بريطانيا إلى غزة في 23 شباط/ فبراير 2020، لإنهاء معاملات الطلاق، وكانت اتفقت مع زوجها على اصطحاب ابنها معها إلى بريطانيا، لتمنحه حياة أفضل من الحياة تحت الحصار في غزة.
وفي منتصف شهر آذار/ مارس وبعد 22 يوماً من عودتها، زار زوجها ابنه في بيت والديها، وأخذ الطفل معه للنوم في جدّه، على أن يعيده في صباح اليوم التالي.
أخذه يوم 16 آذار، وظل في منزل والده قرابة الشهر، ثمّ رفض الجدّ إعادة الطفل لابنه بحسب الاتفاق، وحرم الأم رؤيته، ولم يسمح لها حتى بالتحدث إليه عبر الهاتف ورفض أي نوع من التواصل بينهما.
وقبل أن تتوجه هالة بالشكوى إلى الشرطة تدخل وسطاء كثيرون عشائرياً، لكنها الأمر لم ينجح.
حاولت هالة التحدث مع جد الطفل لإقناعه بإعادة ابنها إليها، لكنه رفض، مفضلاً حل الموضوع من خلال المحاكم، مستغلاً حالة الطوارئ واستمرار إغلاق المحاكم الشرعية حتى إشعار آخر.
كورونا والمحاكم الشرعية
في فلسطين عموماً، أعلنت حالة الطوارئ لمواجهة “كورونا”، كما توقفت المحاكم الشرعية في قطاع غزة عن العمل، إذ صدر قرار من رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي بناء على قرار الشرطة القضائية بإيقاف التبليغات الشرعية، وبناء عليه تم تأجيل الدعاوى القضائية والتنفيذية المسجلة والمعروضة أمام محكمة الدرجة الأولى، وإيقاف استقبال الدعاوى الجديدة القضائية والتنفيذية بكل أنواعها، لدى محاكم الدرجة الأولى، ومحكمتي الاستئناف، مع إيقاف استقبال مشروعات تنظيم الملابس والاذن بالسفر وكل ما يتعلق بالتنفيذ الجبري، وإيقاف استقبال الطعون لدى المحكمة العليا الشرعية.
والد هالة ووالدتها صديقان للعائلة، اتصلا بي لطلب المساعدة، فاتصلت بمكتب النائب العام في غزة، وقام بتكليف وكيل نيابة شرطة المدينة بأخذ الشكوى من هالة، إلا أن الشرطة رفضت ذلك، وطلبت من هالة التوجه للعلاقات العامة في الشرطة وحل الخلاف ودياً.
وبعد اتصالات متكررة مني ومن غيري وبعد فشل مساعي هالة لاستعادة طفلها، تدخلت منظمات حقوق الإنسان ومنظمات نسوية حقوقية وأجريت اتصالات حثيثة مع القضاء الشرعي الذي عقد جلسة مستعجلة وأمر القاضي الشرطة القضائية بتنفيذ القرار واستطاعت هالة استعادة طفلها بعد انتظار دام 20 يوماً.
ويمكن القول إن النساء هنّ من الفئات الأكثر تضرراً في فترة الحجر المنزلي
هالة حرمت من حقها في ابنها، علماً أنه في غزة تحتفظ الأم بحضانة ابنها حتى يبلغ التاسعة من عمره بحسب قانون حقوق العائلـة الصادر في عهد الإدارة المصرية لقطاع غزة عام 1954، وأخبرتني هالة أن والد طفلها حاول استخدام أساليب بشعة مختلفة لإثبات أنها ليست أماً صالحة، كالقول إنها سيدة ليبرالية منفتحة في مجتمع محافظ ذكوري.
وكان أحد القضاة أبلغ هالة أن ابنها ليس صغيراً بما فيه الكفاية ليقوموا بإحضاره لها، وقال قاضٍ آخر إنه لا يمكنه فعل أي شيء حتى تفتح المحاكم الشرعية وأن الكثير من النساء يعانين من المشكلة نفسها، ولا يستطعن فعل أي شيء الآن.
هالة وجهت نداء لجميع المعنيين في غزة وقالت إنه لا ينبغي السماح لحالة الطوارئ بفعل فايروس “كورونا” بإساءة معاملة النساء أكثر، مطالبةً بمعاقبة الرجال الذين يستغلّون حالة الطوارئ لحرمان النساء من حقوقهنّ. وأضافت: “كنت في إحدى المحاكم التي كانت فارغة تقريباً بسبب حالة الطوارئ، وشعرت بألم شديد عندما سمعت عدد النساء اللواتي يعانين من المشكلة ذاتها ويتعرضن لسوء معاملة من قبل آباء أطفالهنّ”.
إنه لأمر محزن أنه لم يكن هناك رجل واحد لديه مشكلة مماثلة، كنّ جميعاً نساء. حتى أقوى النساء، يصبحن عاجزات عندما تغيب القوانين والعدالة.
وقالت: “حين توجّهت إلى مركز الشرطة لتقديم شكوى، لم أكن أملك أي وثيقة أو ورقة رسمية تخص ابني، لا جواز سفر أوشهادة ميلاد، وأنا لم أنوِ مغادرة غزة، فالمعابر مغلقة والقانون يمنع الزوجة من السفر مع أطفالها إلا بموافقة رسمية من الوالد، كما أن في غزة لا تستطيع الأم إصدار جواز سفر للطفل من دون موافقة الوالد”. وتضيف: “أنا طالبت بحقي في حضانة ابني في غزة”.
هالة ليست ضحية “كورونا”، بل ضحية تأخير العدالة، ما حرمها من رؤية ابنها أو حتى سماع صوته هاتفياً. وقصتها واحدة من قصص كثيرة، تحدث كل يوم بسبب عدم قدرة بعض القضاة على النظر في قضايا مستعجلة وتحقيق العدالة في الأجهزة التي تعطلت ولم تراعِ حالة الطوارئ في قضايا النساء الملحة، كالعنف الأسري، والحرمان من الحضانة وغير ذلك.
منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسوية الحقوقية حذرت منذ فرض حالة الطوارئ من استغلالها لانتهاك حقوق الإنسان، ويمكن القول إن النساء هنّ من الفئات الأكثر تضرراً في فترة الحجر المنزلي، مع ما يتعرّضن له من عنف واعتداءات، جراء فرض العزلة عليهن والمكوث الاجباري في المنزل مع رجل معنِّف قد يكون أباً أو زوجاً أو شقيقاً. وبذلك تكون مصائر كثيرات معلّقة بمزاج معنِّفين وأمراضهم النفسية، في ظل عجز قضائي وقانوني عن الحماية.
منذ إعلان حالة الطوارئ أطلقت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات النسوية الحقوقية برامجها ووفّرت خطوطاً هاتفية ساخنة لتلقي شكاوى النساء، في ظل “كورونا” والحجر المنزلي، وما تحمله هذه الظروف من أعباء إضافية على النساء اللواتي يتعرّضن لضغوط نفسية واجتماعية وعنف. لكنّ ذلك لا يكفي بطبيعة الحال، الجهود المدنية والفردية لا تكفي لحماية مجتمع بأكمله، إنها أولاً مسؤولية السلطة الحاكمة.
وأكدت الجهات المختصة منها النيابة العامة والقضاء المدني والقضاء الشرعي أن العنف ضد النساء زاد كثيراً في فترة الحجر، وأشارت منظمات نسوية إلى تلقّيها مئات الشكاوى.
وفي ظل هذه الظروف كلها، كان على الحكومات والسلطة القضائية استدراك الأمر ومشاركة منظمات المجتمع المدني بخاصة النسائية منها في وضع خطط من شأنها ضمان عدم تعرض الأفراد في الحجر المنزلي للعنف وسوء المعاملة، وأن يستمر عمل المحاكم والنيابة العامة والشرطة في تلقي شكاوى النساء ومتابعتها وفق القانون، حتى لا تقع النساء ضحية الحرب على “كورونا”، ويحرمن من أبسط حقوقهنّ الإنسانية.