نشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني، ومعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) خلال شهر تشرين أول/أكتوبر الماضي من العام الجاري 2019، دراسة بعنوان (ـتوجيهات أساسية لإستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي)،للباحثين غادي ايزنكوت رئيس الأركان الإسرائيلي السابق والباحث الزائر في معهد واشنطن منذ بداية العام الجاري، وجابي سيبوني الجنرال المتقاعد من الجيش الإسرائيلي والباحت في معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي.
من جهتها تسعى هذه المقالة للتنبؤ بمسارات تطور الصراعالفلسطيني الإسرائيلي، وذلك من خلال قراءة الدراسة اولاًمن حيث الشكل، وثانياً من حيث المضمون، ثم ستفحص في المضمون تقديم الدراسة للصراع من حيث كونه تحدي ومصدراً للتهديدات التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي،وثانياً من حيث الردود التي تقترحها الإستراتيجية لمواجهةهذه التحديات والتهديدات، ولا تنوي هذه المقالة تقديم توصيات لصانع القرار الفلسطيني، إذ أنها تكتفي بإثارة نقاش في أوساط النخب الفلسطينية حول تنبؤاتها التي قد تصيب وقد تخطأ.
الدراسة من حيث الشكل: وقعت الدراسة في 78 ورقة، وتكونت من مقدمة وخاتمة وخمسة فصول وقائمة للملاحق، حيث حمل الفصل الأول عنوان القيم والمصالح، وتناول الفصل الثاني البيئة الجيوستراتيجية للدولة، فيما حدد الفصل الثالث تحديات وتهديدات الأمن القومي الإسرائيلي، وشرح الفصل الرابع معززات الأمن القومي، وخصص الفصل الخامس والأخير لتحديد الردود على التهديدات.
أما قائمة الملاحق فشملت ثلاثة ملاحق، إذ تناول الملحق الأول قائمة المفاهيم التي احتوتها الدراسة التي بلغت (21) مفهوماً، وخصص الملحق الثاني لشرح المعايير الأساسية الذي إستندت عليها الدراسة في تحليل الأمن القومي في إسرائيل، أما الملحق الثالث فتضمن رسوم بيانية توضح مرجعية الأمن القومي خاصة الوثائق المصنفة للجيشووزارة الدفاع، ومن حيث البنية المؤساتية للأمن القومي، وأخيراً من حيث هيكلية النظام العسكري في إسرائيل، وقبل ذلك كله المرجعية الدستورية والفكرية.
ومن جهة منهجية البحث التي طبقتها، فتظهر قراءة الدراسة أنها وظفت نموذج تحليلي يقوم على تحليل الأمن القومي في إسرائيل بناء على معايير محددة جرى تطويرها خصيصاًلهذه الغاية، حيث طورت الدراسة سبعة معايير اساسيةوتفرع منها سبعة معايير أخرى، ويكشف فحص هذه المعايير أنه قد جرى تطويرها وفق منهجية التفكير المنطقي (Logical Framework of Thinking)، إذ يقوم هذا المنهج على تحديد الغاية المقصودة إبتداء، ثم ينتقل لتحديد العقبات التي تعيق تحقيق هذه الغاية، ثم ينتقل لشرح وسائل معالجة هذه العقبات وفق تسلسل منطقي بين المعاييرالتي جرى تطويرها، بحيث يتأسس المعيار اللاحق على خلاصة المعيار السابق.
وقد شرعت الدراسة في تطوير المعايير تأسيساً على حقيقةمفادها أن الأمن الذي تنشده إسرائيل يكمن في تحقيق السلام مع الدول والشعوب التي تناصبها العداء، الأمر الذي يقتضي التفرقة بين معيارين اثنين يتجليان في التفرقة بيننوعين من السلام، السلام الحقيقي كمعيار أول، والسلام القانوني او السلام المحمي (Protected Peace) كمعيار ثاني، على أن تجري التفرقة وفقاً للتعريفات المتضمنة في الإستراتيجية العسكرية التي كان قد طورها العميد أبرهام تامير (براشا) في العام 1981، والتي لا زالت من الوثائق المصنفة في وزارة الدفاع.
وكانت وثيقة (براشا) قد عرفت السلام الحقيقي بالسلام الذي تختفي أو تنعدم فيه التهديدات والمخاطر، وعرفت السلام الديبلوماسي/القانوني او السلام المحمي بالسلام الذي ينشأ بناء على معاهدات واتفاقيات بين الشعوب، ولكنهالسلام الذي تبقى فيه التهديدات قائمة وكامنة، أي انه شكل آخر من أشكال المواجهة، الأمر الذي يتطلب الإبقاء على القدرة العسكرية للأمة خاصة تفوقها الإستخباري في أفضل الحالات لمواجهة التهديدات التي قد تنشأ، أو بعبارة أخرىلحماية هذا السلام.
وحول الإطار النظري والمفاهيمي، فتكشف قراءة الدراسة (الوثيقة) أن الباحثان قد دمجا في دراستهم للأمن القومي الإسرائيلي بين مقاربتين نظريتين، الأولى هي المقاربة التقليدية لدراسة الأمن التي تقوم على إعتبار الدولة هي وحدة التحليل الأساسية في دراسة الأمن، وأن الأمن القومي للدولة يعتمد بالأساس على قوتها العسكرية باعتبارهاالوسيلة الأنجع لمواجهة التهديدات، وأن مصدر هذه التهديدات دائماً يكون خارجي، والثانية هي المقاربة النقدية للأمن لا سيما مقاربة مدرسة كوبنهاجن التي تقارب المسألة الأمنية من خلال العلاقة بين المستويات الأفقية (الدولة، الفرد، المجتمع، الإقليم، النظام الدولي) والأبعاد العمودية(السياسية، العسكرية، الإقتصادية، الإجتماعية، البيئية، التكنولوجية، ...).
الدراسة من حيث المضمون: مثل تعريف الدراسة للأمن القومي أول ملامح مضمونها، وكانت الدراسة قد إقتبست تعريف الأمن القومي من قاموس المفاهيم والمصطلحاتالخاص بالجيش الإسرائيلي، إذ قدمت وثيقة الجيش، الأمن القومي باعتباره "خلاصة جهود الحكومة في توظيف قدرات الأمة القومية لمواجهة التهديدات التي تهدد البقاء والمصالحفي كل الظروف المحتملة".
وفي السياق ذاته تبين قراءة الدراسة أنها حافظت على المراجع الدستورية والسياسية والفكرية التي استلهم منها مؤسسي الدولة الأوائل إستراتيجية الأمن القومي للبلاد،باعتبارها مصادر ثابثه تستلهم منها الشعوب إستراتيجياتها الوطنية لا سيما استراتيجية الأمن القومي، كما حافظت الدراسة على الغايات القومية (للأمة اليهودية) التي يقع في القلب منها حفظ البقاء في إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية، وحافظت الدراسة كذلك على جملة من المفاهيم والفرضياتوالمرتكزات كما وردت في إستراتيجة الأمن القومي التي صاغها مؤسس الدولة دافيد بن غوريون لأول مرة في العام 1948.
وكان من اللافت في هذا الشأن تأكيد الدراسة على الأساس الفكري الذي وضعه زعيم التيار الإصلاحي في الحركة الصهيونية زئيف جابوتنسكي في مقالته الشهيرة (الجدار الحديدي) التي نشرت لأول مرة باللغة الروسية في العام 1923، والذي كان بن غوريون قد استلهم منها أفكاره فيتحديد المبادئ والمرتكزات التي قامت عليها إستراتيجية الأمن القومي الأولى للدولة، كالردع، والإنذار المبكر، والتفوق النوعي الذي يضمن النصر، علاوة على تأكيد الدراسة على الفرضية الإسرائيلية الثابثة الكامنة في عبارة "أقلية مقابل أكثرية"، التي كانت من الأسس التي بني عليها بن غوريون إستراتيجية الأمن القومي الأولى، وتجدر الإشارة هنا أنالباحث الإسرائيلي في شؤون الأمن القومي "يسرائيل تال"قد كتب في هذا الشأن كتابه الشهير (أقلية مقابل أكثرية، The Few Against the Many) الذي نشرته دار دفير(Dvir) للنشر باللغة العبرية في العام 1996.
أما من حيث دور العلاقات الدولية والسياسة الخارجية للدولة في تحديد مضمون إستراتيجية الأمن القومي، فقد أكدت الدراسة على الأهمية الإستراتيجية لعلاقة إسرائيل بالولايات المتحدة الأمريكية، واعتماد الأولى على الثانية سياسياًوديبلوماسياً وعسكرياً وإقتصادياً لتوظيف هذه العلاقة في توفير ما تحتاجه الدولة للحفاظ على أمنها القومي.
وفيما حافظت الدراسة على المرجعيات الدستورية والمنطلقات الفكرية والمرتكزات التي قامت عليها إستراتيجية الأمن القومي الأولى للدولة، إلا أن قراءة الدراسة تكشف بالمقابل أنها قد أضافت ما هو جديد من المفاهيم والمرتكزاتوالفرضيات والتحديات والتهديدات والردود على التهديدات وسياقات هذه الردود، وذلك على ضوء نتائج تحليل الدراسة للواقع الجيوستراتيجي للدولة وما يتضمنه هذا الواقع من نقاط للقوة والضعف والفرص والتهديدات.
ويمكن تلخيص الجديد الذي أضافته الدراسة في النقاط التالية:
• إعتراف الجنرالين ضمناً بعدم وجود إستراتيجية واضحة للأمن القومي في إسرائيل منذ بداية القرن الجاري، أو إقرارهم بأن الإستراتيجة القائمة، إذا كانت هناك إستراتيجية، فهي بحاجة إلى تحديث وإعادة صياغة، وينبغي هنا التنويه أن مصطلح إستراتيجية أمن قومي قد تكرر أكثر من مرة في الدراسة، إلا أن الباحثان قد ذكرا في الفقرة الأولى من خاتمة الدراسة أن بن غريون وقيادات الجيش الأوائل كانوا قد صاغوا إستراتيجيات عملانية للرد على التهديدات الصعبة المحيطة بالدولة، إلا أنه لم يجري أبداً دمج هذه الإستراتيجيات في إستراتيجية أمنية متكاملة ومتماسكة.
• ولذلك دعت الدراسة علناً الى صياغة إستراتيجية جديدة للأمن القومي في إسرائيل، الأمر الذي يمكن الإستدلال عليه من إقدام جنرالين سابقين في الجيش الإسرائيلي أحدهم بوزن رئيس الأركان على إعداد ونشر الدراسة، لا سيما وأن غايتهم من النشر كما وردت في مقدمة وخاتمة الدراسة هي إثارة نقاش عام في أوساط القيادات والنخب الأمنية والإقتصادية والإعلامية والتكنولوجية والأكاديمية والسياسية، يؤدي في نهاية المطاف الى صياغة إستراتيجية أمن قومي قادرة على حماية وجود الدولة وصيانة مصالح الأمة.
• دعوة الدراسة الى مأسسة إستراتيجية الأمن القومي في إسرائيل من الناحيتين النظرية والإجرائية، الأمر الذي يستدل عليه من الرسوم البيانية التي وردت في قائمة الملاحق.
• دعوة الدراسة الى تحول الإستراتيجية في إسرائيل من مفهوم الهجوم المطلق الى مفهوم جديد يدمج بين الدفاع والهجوم عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، إذ فيما أكدت الدراسة أن إستراتيجية الأمن القومي يجب أن تقوم على مفهوم الدفاع، فقد أكدت بالمقابل أن الإستراتيجية العسكرية يجب أن تقوم على مفهوم الهجوم، ومن المفيد هنا الإشارة الى أن إسرائيل قد أضافت الدفاع كركيزة رابعة الى الركائز الثلاث التي كان قد وضعها لأول مرة دافيد بن غوريون كركائز تقوم عليها إستراتيجية الأمن القومي وذلك في أعقاب حرب العام 2006 على لبنان.
• إضافة تحديات وتهديدات جديدة لقائمة التحديات والتهديات التقليدية وغير التقليدية التي تواجه إسرائيلسواء تلك الجارية، أم المتوقع بروزها في المستقبل، مثل التحديات والتهديدات الكامنة في حملة مقاطعة إسرائيل، وحملة نزع الشرعية عنها، علاوة على التهديدات التقليدية وغير التقليدية التي تمثلها إيران وحلفائها من التظيمات المسلحة اللبنانية والعراقية واليمنية والفلسطينية، وكذلك التهديدات السبرانية.
• وسلطت الدراسة الضوء عند تناولها للتحديات والتهديدات على الإنقسامات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، بين الفقراء والأعنياء، وبين الشرقيين والغربيين والأثيوبيين، وما بين اليمين واليسار، وبين العلمانيين والمتدينيين، ومن جهة أخرى بين الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية، الأمر الذي عزز من شعور الإنتماء للمجموعة على حساب الإنتماء للوطن، وأضعف من جهة أخرى من دوافع الأفراد الإنضمام للجيش لا سيما للوحدات المقاتلة.
• ولذلك دعت الدراسة إلى دعوة الدراسة إلى إعتمادفلسفة جيش الشعب الى جانب الجيش النظامي فيإطار تعزيز القدرات العسكرية للأمة، على أن يترك للجيش وحده الحق في إختيار من سيخدمون في صفوفه.
• وفي السياق ذاته دعت الدراسة الى ضرورة إشراكالأقلية الفلسطينية وفئة اليهود المتدينين (الحرديم) في الخدمات الأمنية ذات الطابع المدني كالشرطة والدفاع المدني وخدمات الإسعاف الطبي في جهاز نجمة داوودالحمراء وغيرها من الوظائف، وتجدر الإشارة في هذا الشأن أن الأقلية الفلسطينية تشكل الآن ما نسبته 21% من مجموع سكان إسرائيل، ويشكل اليهود الحرديم ما نسبته 16%، وتتوقع مؤسسة الإحصاء المركزي أن تصل نسبة اليهود الحرديم في إسرائيل الى ما نسبته 25% من مجموع السكان في العام 2048، وتاسيساً على هذه الحقائق تقدر مؤسسات البحث المتخصصة في شؤون الأمن القومي داخل إسرائيل وخارجها أن التهديد الأخطر على أمن الدولة القوميخلال العقدين القادمين يكمن في بقاء اليهود الحرديموالعرب الفلسطينيين الذين سيشكلون أكثر من 50% من مجموع السكان خارج قوة العمل وخارج الخدمة الأمنية والعسكرية.
• يفسر البند السابق تعدد المفاهيم التي وظفتها الدراسة عند تقديم الشعب في إسرائيل ومدى قوة إنتمائه للدولة، فتارة قدمته كأمة (Nation)، وتارة ثانية كسكان (Residents) وتارة ثالثة كقاطنين (Inhabitants)، وكان من اللافت أنها قرنت تعزيز الإنتماء للدولة بشعور كل مواطنيها انهم يتمتعون بحقوق كاملة ومتساوية.
• وكان من اللافت كذلك دعوة الدراسة الى تمييز المجندين في صفوف الوحدات المقاتلة في الجيش والوحدات المساندة لها ماليا، لتحفيز الشباب على الخدمة في صفوف هذه الوحدات.
• أبرزت الدراسة مسألة إعتماد المجتمع على ذاته كأحد أهم الأسس التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي، والمهم أن هذا الإبراز قد أتي في سياق تهيئة المجتمع لتوقع الأسوأ.
• أضافت الدراسة فرضيات جديدة للفرضيات القائمة ومن أهم الفرضيات الجديدة، فرضية فقدان إسرائيل لقوة الردع، وفرضية تعرض إسرائيل لهزيمة عسكريةواضحة، وقد أوضحت الدراسة في شأن الهزيمة أن إسرائيل يمكنها أن تتعرض مرة واحدة فقط للهزيمة.
• أضافت الدراسة الإقليم (الدول العربية) كمستوى أساسي من المستويات التي يقوم عليها الأمن القومي الإسرائيلي
• إعتمدت الدراسة مقياس المستويات والأبعاد الذي تقوم عليه المقاربة النقدية للأمن والذي طوره باري بوزان في تطوير إستراتيجية الأمن القومي الجديدة.
• إضافة مفاهيم جديدة لقائمة المفاهيم المعبرة عن إستراتيجية الأمن القومي في إسرائيل، ومن أبرز هذه المفاهيم مفهوم (BDS) أو مفهوم حركة مقاطعة إسرائيل، ومفهوم نزع الشرعية (Delegitimization)، ومفهوم النصر(Victory)، أي تحديد معنى النصرسياسياً وعسكرياً، ومفهوم التفوق أو الإستعلاء الإستخباري (Intelligence Superiority).
• سلطت الدراسة الضوء على أهمية دور الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية في خدمة الأمنالقومي الأمريكي، وقد جاء هذا الإبراز في سياق الدعوة لمعالجة الأزمات والإنشقاقات التي بدأت تبرز للسطح في الأونة الأخيرة بين هذه الجاليات وإسرائيل كدولة.
الدراسة من حيث مكانة الصراع الفسطيني الإسرائيلي: قدمت الدراسة الصراع بإعتباره صراع معقد وممتد ولا يبدو أنه قابل للحل وذلك في سياق عرضها للتحديات والتهديدات التي تواجه إسرائيل في المرحلة المعاشة.
وأكدت الدراسة في هذا الشأن أن إسرائيل تواجه في اللحظة الراهنة نوعين من التهديدات، سواء من حيث مصدر التهديد، أم من حيث اسلوب ونمط عمل جهة التهديد، لا سيما بعد غياب التهديد التقليدي الذي كانت جيوش الدول العربية مصدره، حيث تمثل المنظمات من خارج نظام الدولة(Nonstate) النوع الأول من هذه التهديدات، فيما تمثل إيران والمنظمات المتحالفة معها النوع الثاني، أما من حيث أسلوب العمل (Modus Operandi) فقد وضحت الدراسة أن كل من الجهتين تتبنى إستراتيجية عمل تتكون من مستويين الأول عملاني والثاني فكري مفاهيمي، وأضافت الدراسة أن الهدف النهائي لهذه الجهات هو دفع إسرائيل للإنهيار وإنهاء وجودها ككيان سياسي.
وقد قدمت الدراسة الصراع من جهة كتحدي، ومن جهة أخرى كتهديد، حيث يكمن التحدي في الطريق المسدود الذي وصلت اليه محاولات علاج هذا الصراع بالطرق السلمية وفق فلسفة (الجدار الحديدي) خاصة وأن إستمرار الصراع يعتبرمصدراً للمزيد من التحديات التي يقع في القلب منها الآثاربعيدة المدى على هوية إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية.
ويتجلى التهديد في الإستراتيجيات التي تعتنقها المنظمات الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من المنظمات الفلسطينية، حيث تقوم هذه الإستراتيجية على تنفيذ هجمات عسكرية محدودة ضد الجيش والمواطنين والمنشآت المدنية والعسكرية في إسرائيل.
وكأن الدراسة هنا تقول ان الفلسطينيين وإن كانوا منقسمين فيما بينهم، إلا أن إستراتيجيتهم تتكون من مستويين الأول عملي والثاني فكري مفاهيمي، والأهم أن الدراسة تؤكد أنهذه الإستراتيجية تصيب إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي في مقتل، لا سيما وأنها تضرب الأمن القومي الإسرائيلي في بعدين من أبعاد بطنه الرخوة، حيث يمثل المجتمع الإسرائيلي المنقسم على ذاته عميقاً والذي طال انتظاره لحسم وجوده في المنطقة البعد الأول، وتمثل صورة إسرائيل وشرعيتها الدولية المتآكلة البعد الثاني.
وفي سياق تشخيصها لتداعيات التهديدات على الوضع الجيوستراتيجي للدولة، خصصت الدراسة مساحة خاصة للضفة الغربية، حيث أكدت على الحيوية الإستراتيجية للضفة الغربية في إستراتيجية الأمن القومي، لقربها أولاً من التجمعات السكانية والمنشآت الحيوية الإسرائيلية التي تتركز في وسط البلاد، ولكونها ثانياً تمثل العمق الإستراتيجي للدولة.
الدراسة من حيث الردود المقترحة لمواجهة التحديات والتهديدات الناشئة عن إستمرار الصراع: تناولتالدراسة الردود على التحديات والتهديدات التي مصدرها إستمرار الصراع مع الفلسطينيين في معرض الإستجاباتوالردود على كل التهديدات التي تهدد الدولة، حيث أكدت الدراسة في هذا الخصوص أنه فيما يجب أن تُبنىإستراتيجية الأمن القومي لإسرائيل على اسس دفاعية(Defensive)، يجب أن تُصمم بالمقابل الإستراتيجية العسكرية وفق المقاربة الهجومية (Offensive).
وقد حددت الإستراتيجية وشرحت الردود على التهديدات بناءً على الأهداف التي صممت لغايات تحقيقها، حيث حصرت هذه الأهداف في تأكيد وجود الدولة من خلال القيام بجهود سياسية وعسكرية إستباقية تطيل الفترة بين المواجهات،وتضمن إستئصال التهديدات التي تواجه إسرائيل حال بروزها، وتضمن كذلك إحتفاظ إسرائيل الدائم بقوة ردع فعالة.
وكان من اللافت في معرض عرضها للردود على التهديدات تأكيد الدراسة مرة أخرى على مبدأ (الجدار الحديدي) المستمد من مقالة جابوتنسكي، وترجمة بن غوريون لهذا المبدأ عندما صمم إستراتيجية الأمن القومي لأول مرة العام 1948.
وقد حرصت الدراسة على تقديم الردود وفق معادلة بوزان (المستويات والأبعاد) حيث شملت البعد الإجتماعي، والبعد الإقتصادي، وبعد التكنولوجيا والعلوم، والبعد العسكري، ثم بعد العلاقات الدولية، وأخيراً البعد السياسي (السياسة الخارجية والداخلية).
وينبغي هنا التنويه إلى حرص الدراسة على إبراز البنية التنظيمية لتسلسل القيادة عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، حيث يقف المجلس الوزاري المصغر المعروف (بالكابينت) على راس الهرم القيادي، ويخضع للكابينت مباشرة رئيس الأركان بحيث تنحصر مسؤولياته في تحريك القوات وبناء القوة العسكرية، أما جهازي الموساد والأمن العام (الشاباك) فيخضعان لرئيس الوزراء، وتخضع الشرطة لسلطة وزير الأمن الداخلي.
وفيما وظفت الإستراتيجية المقترحة كل الأبعاد في تفصيل الردود الإسرائيلية على التحديات والتهديدات المتضمنة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلا أن المساحة التي خصصتها الدراسة للبعدين العسكري والسياسي للرد على هذه التحديات كانت مثيرة للإنتباه.
وينبغي هنا التنويه أن الإستراتيجية العسكرية بشكل عام قد بنيت على أربع أعمدة أساسية مثل الردع، والتفوق الإستخباري، والدفاع، وأخيراً النصر.
وتظهر قراءة الصراع من زاوية الأعمدة الأربعة المشار اليها سابقاً يبدو بوضوح أن الصراع مع الفلسطينيين يهدد جدياً هذه الأعمدة لا سيما بما يتعلق بالدفاع وذلك نتيجة للواقع الجيوستراتيجي للضفة الغربية التي يقطنها أغلبية فلسطينية لا زالت تعتبر نفسها في حالة عداء مع إسرائيل على الرغم من توقيع اتفاقية أوسلو بين الطرفين في العام 1993.
وتعود الأهمية الجيوستراتيجية للضفة الغربية لسببين، الأول
لجهة قربها من التجمعات السكانية والمنشآت الإستراتيجية(العسكرية والإقتصادية) والتي تقع جميعها في مثلث (القدس تل أبيب حيفا)، والثاني لكونها تمثل العمق الإستراتيجي للدولة في حال بروز أي تهديد من الشرق، الأمر الذي يجعل من عدم سيطرة إسرائيل العسكرية على الضفة الغربية تهديداً صريحاً مباشرة لإستراتيجيتها العسكرية سواء كان مصدر التهديد داخلي من الفلسطينيين في الضفة الغربية أم خارجي.
وتأسيساً على ذلك أوصت بضمان إسرائيل حرية إنتشار الجيش في الضفة الغربية وقت الضرورة، إضافة لضمانإسرائيل سيطرة كاملة على منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت، فضلاً عن ضمان عدم بروز أي كيان مسلح في الضفة الغربية في ظل أي ترتيبات مستقبلية مع الفلسطينيين وكذلكضمان إسرائيل منع تهريب السلاح للضفة الغربية خاصةالتهريب من الشرق.
أما على صعيد البعد السياسي فقد قدمت الدراسة ردود الإستراتيجة الإسرائيلية عى التحديات والتهديدات التي مصدرها الصراع مع الفلسطينيين كتهديات مقترنة مع حملة نزع الشرعية عن إسرائيل
لا سيما وأن هذه الحملة آخذة في التصاعد والاتساع حول العالم في المجالات الإعلامية والثقافية والأكاديمية والإقتصادية.
الدراسة ومسارات تطور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: تناولت الدراسة الفلسطينيين مصدراً تارة للتحديات التي يتوجب على إسرائيل مواجهتها لا سيما تلك التحديات التي تستهدف المساس بشرعية وجود الدولة في المجتمع الدولي، الأمر الذي يتمثل في حركة مقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عنها، وتناولته تارة أخرى كتهديد ذو طبيعة عملانية من جهة، وطبيعة فكرية مفاهيمية من جهة أخرى.
وكان من اللافت عدم إشارة الدراسة مطلقاً للحل السياسي على أساس حل الدولتين، حيث إستخدمت استخدمت الدراسة بالمقابل مصطلح الترتيبات المستقبلية مع الفلسطينيين، وفي هذا الشأن فقد أوصت الدراسة أن تضمن إسرائيل من خلال هذه الترتيبات حرية إنتشار الجيش في الضفة الغربية وقت الضرورة، علاوة على ضمان عدم قيام أي كيان فلسطيني مسلح في الضفة الغربية، وعمل كل ما يلزم لضمان منع تهريب السلاح للضفة الغربية خاصة من الشرق، كما أوصت الدراسة بإبقاء منطقتي غور الأردن وشمال البحر الميت تحت السيطرة العسكرية للأبد.
وتكشف هذه التوصيات أن قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب دولة إسرائيل وفق مبدأ حل الدولتين ينطوي على تهديدات جدية للأمن القومي الإسرائيلي، مما يجعل من إقدام إسرائيل على ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها للسيادة الإسرائيلية مسألة وقت فقط، لا سيما وأن نتائج جولتي الإنتخابات التي جرت في إسرائيل خلال العام الجاري قد أظهرت من جهة، أن الأحزاب السياسية التي تؤمن بمبادلة الأرض بالسلام قد أصبحت على هامش التأثير السياسي في إسرائيل، وأظهرت من جهة أخرى أن أحزاب اليمين والوسط التي تدعو لضم الضفة الغربية هي الأحزاب المهيمنة على القرار السياسي الإسرائيلي.
وعلى ضوء ذلك من المشروع الإستنتاج أن فرصة تسوية الصراع على أساس حل الدولتين قد انتهت للأبد، وأن إسرائيل مقدمة لا محالة على ضم الضفة الغربية أو ضم أجزاء واسعة منها لسيادتها، وأنها اي إسرائيل إما سترحل الفلسطينيين من المناطق التي ستضمها لسيادتها، أو أنها ستضمهم دون أن تمنحهم جنسيتها.
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي