سرعة تبدل الأجواء والمزاج، والانتقال من شديد التفاؤل إلى التشاؤم أو التشاؤل برفع الحصار أو الانفراج، احتواء الانفجار واستبعاده وعودة احتمالاته الكبيرة بين لحظة وأخرى؛ كلّ ذلك يدلل على شدة التعقيدات والتعرجات والانزلاقات التي يمرّ بها مسار التهدئة، وهذا انعكاس وترجمة لإرادة تحاول أن تنتصر على أزمة بنيوية عميقة تحاصر مسار رفع الحصار، مجموعة كبيرة من التعقيدات والأزمات الكلية والجزئية المترابطة ببعضها البعض والمتتالية تضرب حتى داخل المنظومة الواحدة، وهي ما تشكل الأزمة البنيوية العميقة، وتبدّد كل ثقة بنجاح مسار التهدئة، حتى عندما ينجح الوسطاء ويبدأ قطاف بعض الثمار.
الأصل أن يرتبط القطاع ببقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، بذات المصير والمسار، لكن ولظروف يعرفها الجميع؛ يضطر أهل القطاع للبحث عن حلول آنية تجعل من القطاع - كوحدة جغرافية وتجمع سكاني كبير محاصر ومعزول - شيئًا قابلًا للحياة، وهناك من يريد أن يثبت أنه ليس فقط قابل للحياة، بل وقادر على الازدهار والنهوض والتحليق بما يثبت فشل قوانين الجاذبية، رغم حجم المؤامرات وتناقض مصالح واستراتيجيات النافذين والمحركين.
ومن سريالية المشهد أننا في القطاع نسعى بوسائل كفاحية وطنية للبحث عن حلول يتخوف البعض ويحذر من علامات الاستفهام حول مساراتها الاستراتيجية أو الأفق الذي تسير إليه أو الواقع البعيد الذي سينشأ عنها، وما بين التحذير والتخوف، وبين من يبحث عن وسائل البقاء؛ يكمن بُعد انقسامي آخر يتغلغل داخل المنظومة الواحدة.
خمسة أطراف نافذة على الأقل تتحكم بمستقبل وحاضر القطاع وتمسك بخيوط أزمته: إسرائيل والسلطة وحركة حماس وقطر ومصر، وبين هذه الأطراف شبكة معقدة من الصراع وارتباط المصالح، قد تكون أحيانًا عصية على الفهم. فمن جهة رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو (الذي وعد قبل سنوات بأنه القادر على القضاء على حكم حماس) هو من يطالب الأطراف الدولية والإقليمية بتقديم ما يمكن من مساعدات للقطاع تخفف حدة الأزمة وتحتوي الانفجار، مع تمسكه بفرض حصار مُتنفس يتحكم به، ويبدي استعداده للبحث في مسارالتهدئة وتخفيف الحصار، وذلك في ظل استراتيجية فصل القطاع وابتزاز مقاومته عبر معادلة طرفيها التسهيل والرفع التدريجي للحصار، بما يتناسب مع الصعود على سلم الهدوء بمعايير نتنياهو أو تشديد الحصار والتلويح بعصا الردع مقابل ما يصفه بخروقات التهدئة، بيد أنه أحيانًا يصبح غير قادر على تلبية استحقاقات معادلته، لاسيما في هذه الظروف عندما تكون أولويته البقاء السياسي في معركة انتخابية يستغل بها كل مظهر من مظاهر ضعف نتنياهو أمام المقاومة بحسب تفسير كل خصوم نتنياهو، فحتى تحويل أموال المنحة القطرية بات محنة دورية تثير انزعاج نتنياهو؛ لذلك يسوّف ويماطل ويربط الأمر بالمزيد من الهدوء، ويناور محاولًا تحقيق المزيد من الابتزاز، وعلى الأقل البقاء في المرحلة الأولى من مسار التهدئة، ووجد في هذه الأثناء أن أفضل خيار له أن يعلق أمر تحويل الأموال دون أن يقرر بالرفض أو السماح، وجعل الأمر تحت الدراسة، وهو ما يمكّنه في كل لحظة من اتخاذ القرار المناسب له في ذات اللحظة وفي ضوء ظروف معينة، لكن هذا الأمر معناه عدم الوضوح وعدم الثقة في مسار التهدئة والعيش دومًا تحت تهديد سيف التنصل الإسرائيلي أو أقله التسويف، في ظل أن لا حول ولا قوة لدور الضامنين.
السلطة من جهتها تعتبر أن أي تسهيل للقطاع يمنحه فرصة تجعله قابلًا للحياة، ولو مؤقتًا، في ظل الانقسام؛ مؤامرة عليها وتعزيزًا وتشجيعًا للانقسام، لذلك فهي تسعى لعرقلة وإحباط كل جهد لتخفيف أزمات القطاع، وهي لا زالت تتمتع بفاعلية كبيرة فيما يتعلق بمستوى عمق أزمات القطاع وبآليات التخفيف. ولا يبدو أن أي جهة تستطيع أن تفرض على السلطة سلوكًا مغايرًا، وهي (أي السلطة) تعيش في تحدٍ وصراع مكشوف مع أمريكا ومع إسرائيل، على الأقل على المستوى السياسي.
مصر وقطر، كلتاهما تعيشان صراعًا ثنائيًا كبيرًا، لكنهما توحدا موضعيًا ولحظيًا في منح القطاع المزيد من التسهيلات، ولكلّ أهدافها، ويبدو هنا ان الأمر نوع من تدوير رفع الحصار، فرغم ان اتجاه الانفجار هو ضد إسرائيل والمسيرات الأسبوعية والتهديد بتوتير الاشتباك؛ إلا أن العرب هم الذين يدفعون عوضًا عن إسرائيل، سواء عبر المنحة المالية القطرية أو عبر فتح المعبر للأفراد، وأحيانًا للبضائع. يعتبر البعض أن قطر مدفوعة لتشجيع الانقسام وإنجاح فكرة أن القطاع قادر على أن يكون قابل للحياة وإنجاح حكم حركة حماس، أما مصر فهي وعلى الرغم من أنها تقدم التسهيلات، وتعِد بالمزيد بين الحين والآخر، فهي تشعر بحرج شديد وعدم انسجام أحيانًا بين مصالح أمنها في سيناء وبين مصالحها كدولة عربية مع السلطة الفلسطينية، وتخوفها من مستقبل تحويل الانقسام إلى انفصال؛ لذلك فهي تحاول أن تربط تسهيلاتها بمسار المصالحة الفلسطينية وتقديم الاسعافات الأولية عند اللزوم.
لا يبدو أن اللأزمة البنيوية التي تحاصر مسار رفع الحصار ستنتهي قريبًا، طالما بقيت الظروف والأطراف المسؤولة عنها على حالها، ودون أن نشهد تغيرًا نوعيًا على أحد أركانها؛ وعليه سنظل ندور في ذات المتاهة المأزومة ما بين انفراج وتوتر طالما بقى انقسامنا وصراعنا الداخلي.