تُؤكِّد مُعظَم المُؤشِّرات والتَّسريبات الصَّادِرة عن كُل مِن حركة “حماس″، والحُكومة المِصريّة، ودولة الاحتلال الإسرائيلي، أنّ اتِّفاق من أربع مراحل جَرى التَّوصُّل إليه لهُدنةٍ طَويلة الأمد، اعتمده اجتماع غير مسبوق للمكتب السياسي لحركة “حماس” في غزّة بحُضور جميع أعضاء الداخل والخارج، برئاسة السيد إسماعيل هنية، رئيس الحركة، ونائبه صالح العاروري، الذي يَتصدَّر المطلوبين على لائِحة أجهزة الأمن الإسرائيليّة لدَورِه في مقتل ثلاثة إسرائيليين انتقامًا للشهيد محمد أبو خضير، الذي أحرقه مُستَوطنون إسرائيليّون عام 2014، وكان هذا المَقتَل الذَّريعة الذي قادَت إلى العُدوان على قِطاع غزّة عام 2014.
هذا الاتِّفاق، ومِثلَما أشارَت مُعظَم التَّسريبات المُتعمَّدة لتَهيئة الرأي العام الفِلسطيني له، لَعِبت المُخابرات المِصريّة المسؤولة عن مَلفيّ القِطاع وحركة “حماس” دَورًا كبيرًا في إعدادِه، والتفاوض مع الحركة حول بُنودِه، سيتم إعلانه رسميًّا بعد مُصادَقة الحُكومة الإسرائيليّة المُصغَّرةِ عليه غدًا الأحد، برئاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي ألغى زيارةً رسميّةً مُقرَّرة إلى كولومبيا ليُشرِف على التفاصيل والمُتابَعة بنَفسِه، وفيما يَلي المَراحِل الأربَع:
ـ المَرحلة الأُولى: وقفٌ فوريٌّ لمَسيرات العودة، وما يتفرّع عنها من إطلاقِ طائراتٍ ورقيّةٍ حارِقة، وأشكال المُقاومة كافّة مُقابَل فتح معبريّ رفح وكرم أبو سالم بصُورةٍ دائِمَةٍ.
ـ المَرحلة الثانية: توقيع اتِّفاق مُصالَحة بين حَركتيّ “فتح” و”حماس″ برِعايةٍ مِصريّةٍ، يَنُص على استئناف دَفع السُّلطة للرواتب، وإجراءِ انتخاباتٍ رئاسيّةٍ وبرلمانيّةٍ في غُضونِ سِتّة أشهُر.
ـ المرحلة الثالثة: تَدَفُّق الاستثمارات الماليّة، عَربيّة وأجنبيّة، وبِدء عمليّة إعادة الإعمار وبِناء البُنى التحتيّة، وإنشاء محطّات تَحلية وتوفير الكهرباء، وميناء بحري ومطار في الجانِب المِصريّ من الحُدود.
ـ المرحلة الرابعة: انطلاق مُفاوضات تَبادُل الأسرى التي تشمل أربعة إسرائيليين، بينهم جُنديّان ومَدنيّان، وتوقيع اتِّفاق هُدنَة لفترة تمتد من 10 إلى 15 عامًا.
***
هذا الاتِّفاق، وللوَهلةِ الأُولى، يعني تَحوُّل حركة “حماس” من حركة مُقاومة إلى “سُلطةٍ مدنيّةٍ” طِوال فترة الهُدنة، مع احتفاظها بسلاحها، وجناحها العسكري “القسام”، والتخلِّي عن كُل أشكال المُقاومة للاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك المُقاومة المدنيّة اللاعنفيّة، الأمر الذي يضعها بطَريقةٍ أو أُخرى في وَضعٍ مُماثِلٍ للسُّلطة في رام الله، والفارِق الوحيد أنّ الأخيرة مُلتَزِمَة بالتَّنسيق الأمنيّ مع الاحتلال من خِلال قُوّاتها الأمنيّة التي يَزيد تِعدادها عن 40 ألف عُنصُر.
لا نَعرِف حتى كِتابَة هذه السُّطور طبيعة رَد فِعل سُلطَة رام الله تُجاه هذا الإطار، ودورها فيه، فالرئيس الفِلسطيني محمود عباس يَلتزِم الصَّمت، والاتِّصال الوحيد مع “العَرّاب” المِصري للاتِّفاق تَمثَّل في قِيام وفد من حركة “فتح” برئاسة السيد عزام الأحمد، بتسليم رد الحركة على الخُطّة المِصريّة، ولم تُصدِر أي تصريحات أو تسريبات على تفاصيل هذا الرَّد، ممّا يُوحِي بأنّه كان أقرَب إلى الرَّفض، ولكن بطَريقةٍ دبلوماسيّةٍ من خِلال تقديم بعض المَطالِب والشُّروط.
الأمر الآخر الذي يُمكِن التَّوقُّف عنده هو حَول ما إذا كانت حركة “حماس” مُوحَّدة في تأييدِها لهذا الاتِّفاق أم لا، وإذا كانت هُناك مُعارضة له، فما هو حَجمها، ومن سيَقودها من بين أعضاء المَكتب السياسي.
أمّا السؤال الثالث فيَتعلَّق بمَوقِف الفَصائِل الأُخرى سواء الجبهة الشعبيّة لتحرير فِلسطين، أو “الجهاد الإسلامي” أو الحركات الإسلاميّة الأُخرى المُتشدِّدة في القِطاع، وإذا كان مَوقِفها هو الرَّفض مِثلَما يَتوقَّع البعض، فكيف سيكون ردها؟ ولا بُد من الإشارة إلى أنّها استبعَدت كُلِّيًّا عن المُفاوضات مع مِصر حَولَ هذا الاتِّفاق.
إنّ هذا الاتِّفاق سيَبدو في نَظَر كثيرين ونحن من بينهم، أنّه قام بنقل القضيّة الفِلسطينيّة، ولو مَرحليًّا، من كونها “قضيّة سياسيّة” إلى “قضيّةٍ إنسانيّةٍ”، ومن اتِّفاق سلام شامِل إلى اتِّفاق سلام اقتصادي على غِرار سلام توني بلير، المَبعوث الدولي، وخُطَّة سلام فياض، رئيس الوزراء الفِلسطيني الأسبق، الذي عمل على تطبيقه في الضفة الغربية أُسوةً، أو مُحاكاةً، لاتِّفاق “الجمعة الحزينة” السَّاري المَفعول حاليَّا في إيرلندا الشماليّة، وأنهَى مُقاوَمة الجيش الجمهوري الإيرلندي بالتَّدرُّج نَفسِه.
فُرَص نجاح هذا الاتِّفاق في حالِ إعلانِه تبدو “مَعقولةً”، على الوَرق، لمُشارَكة الأطراف الفاعِلةِ فيه على الأرض، وخاصَّةً مِصر وحركة “حماس” ودولة الاحتلال الإسرائيلي، ولكن أي مُعارَضة له، ومن قبل حركة “فتح” قد تَضَع عقباتٍ كبيرة في طَريقِه، وحُصول تَبادُل أدوار ومَواقِع بينها وبين حركة “حماس” في قِطاع غزّة والضِّفَّة الغربيّة، على غِرار ما حَدث بعد الانقلاب على السُّلطَة وانتقال مسؤوليّة إدارة القِطاع لحَماس.
إذا كان هذا الاتِّفاق يَصُب في مصلحة تخفيف مُعاناة مِليونين من أبناء قِطاع غزّة تَحت حِصارٍ خانِقٍ استمرّ عشر سنوات، فإنّ حُكومة نِتنياهو سَتكون الفائِز الأكبر أيضًا، وقد تَرتفِع شَعبيّتها أمام ناخِبيها الإسرائيليين، خاصَّةً في هذا الوَقت الحَرِج، حيث تراجَعت آمالها في انهيار سورية وتقسيمها، وتَعرَّضت، وتتعرَّض لانتقاداتٍ واسِعةٍ في الوَقتِ الراهن داخِليًّا وعالميًّا، بسبب قانون المُواطَنة اليهوديّة الذي كَشَف للعالم بأسْرِه وجهها العُنصريّ.
***
إنّ هذا الاتِّفاق في حالِ نَجاحِه، قد يكون المَرحلةَ التمهيديّة الأُولى لتَطبيق صفقة القرن باسمٍ آخر، أو الشَّق المِصريّ القَطريّ (من قطر) ودون وجود تنسيق بين الجانبين، فالأُولى قامت بالوِساطة، وتَقديم المُغرَيات لحركة “حماس″، والثانية سَتُقَدِّم المال، وهُناك تسريبات إسرائيليّة، لا نَعرِف مدى صِحّتها، تتحدَّث عن قِيام شخصيّة إسرائيليّة كُبرَى بزيارة الدوحة في اليومين الماضيين للاتِّفاق على حجم التَّمويل، وطريقة وصوله إلى القِطاع، والشَّرِكات التي ستتولَّى إعادَة الإعمار، وبِناء محطّات تَحلية المِياه والكَهرباء، والمَطار والميناء.
حركة “حماس” تُقدِم على مُخاطَرةٍ كُبرى، عُنوانها كسب الوقت، وتَكريس وجودها، وإنقاذ أبناء القِطاع من وَضعٍ لا يُطاق، يَصعُب تَحمُّله، بسبب الحِصار، ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بالبواطِن وما تتطلَّع إليه دولة الاحتلال الإسرائيلي من وَراء هذا الاتِّفاق، خاصَّةً أنّ تجارب الفِلسطينيين السابقة مع الاتِّفاقات المُماثِلة مُؤلِمة بِكُل المقاييس، وما جَرى لاتِّفاق أوسلو، وبَعدَ رُبعِ قَرنٍ من توقيعه، ما زالَ ماثِلاً للأذهان.
سننتظر الإعلان الرسميّ لبُنود هذا الاتِّفاق وتفاصيله، ومَلاحِقه، وضمانات تنفيذه، ورُدود الفِعل الفِلسطينيّة والعَربيّةِ عليه، ولا نَعتقِد أنّ انتظارَنا سيَطول، ولِكُلِّ حادِثٍ حَديث.