عملية “كسر الصمت” التي أطلقتها سرايا القدس بعد نفاذ صبرها على خروقات الاحتلال للتهدئة، وأهمها جملة الاغتيالات الأخيرة التي نفذها الاحتلال ؛ فاجأت العدو إلى حد ما وأربكت حساباته، واضطرته الى إعادة النظر في السياق العملياتي الذي بدأه منذ فترة، وهو تغيير قواعد “اللعبة” واستبدالها بقواعد ترسي سطوته ويده العليا واذعان المقاومة رهبة من ردة فعله، التي طالما ارتفع صوته المهدد والمزمجر والمتوعد.
وعملياً نفذت حكومة الاحتلال هذه السياسة الجديدة عبر اغتيال وقتل أكثر من اثنى عشر فلسطينياً داخل القطاع منذ بداية العام، وقد ترافق ذلك مع حملة إرهاب وتصريحات محذرة ومهددة من المستويات العليا الأمنية والسياسية، وترافق كل ذلك بدراسة متأنية وحذرة لردود الفعل وجس نبض المقاومة، فهي أولاً وأخيراً تريد ترسيخ معادلة جديدة لكن في إطار المحافظة على التهدئة، وكانت فصائل المقاومة المستقلة عن حماس وفي مقدمتها حركة الجهاد الاسلامي تشكل حالة من القلق واللغز والتهديد لنجاح معادلتها الجديدة، فلم يكن لديهم يقين عن مدى نجاح حماس في إلزام هذه الفصائل بضبط النفس أو مستوى جدية حماس في ذلك.
لذا لم تُفاجأ إسرائيل برد الجهاد لكنها تفاجأت من حجم الرد، ومن جرأة الاستعداد لإطلاق عملية قد تكون مفتوحة يحدد سقفها وعمقها رغبة الاحتلال في امتصاصها أو الرد عليها، الأمر الذي أربك عصابة المهددين في تل أبيب وكشف حقيقة موقفهم ومخاوفهم وجوف تهديداتهم ورغبتهم الشديدة في التمسك بالتهدئة، وهذا ما أكدناه أكثر من مره سابقاً من أن نتنياهو يخشى الحرب على غزة ويهرب منها قدر استطاعته، وهى ليست أولوية لديه، لكنه اذا ما سمحت له فرصه في أن يكون بطلاً بلا ثمن وبلا مخاطر حقيقية فسيسارع لذلك، واذا ما شخص ضعفاً لدى المقاومة فسيسارع لاستغلاله واستثماره.
سارعت اسرائيل لامتصاص عملية “كسر الصمت” عبر تصريح تحليلي استيعابي لنتنياهو يتفهم فيه العملية، حيث قال في أول تعقيب له وعبر منبر الكنيست أنها تأتي للرد على اغتيال نشطاء الجهاد الثلاثة، وعبر مسار المباحثات مع المصريين لتثبيت التهدئة، وعبر رد فعل ضعيف لم يسقط معه أي شهيد، وكان ملفتاً أنها امتنعت عن تنفيذ أي عملية اغتيال، وهي أرادت بذلك إرسال رسائل مهدئة والتعجيل بإنهاء جولة التصعيد.
في اسرائيل ثمة من ادعى أن عامل الطقس من غيوم وأمطار أو موعد عيد المساخر هو السبب خلف الموقف الاسرائيلي بعدم التصعيد، وبعضهم ذهب أبعد من ذلك وأرجع السبب الى الضوابط والمعايير القانونية الدولية التي تلتزم بها إسرائيل، لكن الجيش الإسرائيلي، وكما هي العادة لدى كل الجيوش، أراد أن يظهر بمظهر القوي الذي لا زالت يده هي العليا، فنشر بياناً عن قيامه بقصف تسعه وعشرون هدفاً شملت مواقع وأهداف لكل فصائل المقاومة، مع التركيز على أهداف تابعة لحركة الجهاد.
لكن كاتباً واحداً على الأقل اكتشف أن تهديدات نتنياهو بلا رصيد، حيث كتب عاموس هرئيل في “هآرتس” أن باراك كان في الحربين السابقتين ورقة التين لرؤساء الحكومات عندما كان وزيراً للحرب، حيث كان بإمكانهم التهديد بالاجتياح وإسقاط حكومة حماس لأنهم كانوا يعتمدون على أن باراك، وهو صاحب القول الفصل في هذا الشأن بصفته وزير الحرب المجرب، سيرفض وسيكتفي بعمليات واسعة لكن في سياق تكتيكي، اليوم لا يوجد لنتنياهو من يعتمد علية كورقة تين، لكنه مع ذلك لا يجد سوى لغة التهديد ليصل الى الإسرائيليين.
نجحت حركة الجهاد بعملية “كسر الصمت” في توجيه رسائل تحذير وتهديد للاحتلال من مغبة استمراره في خروقاته للتهدئة، وفي رسم سياسات جديده تبتز المقاومة وتستنزفها، كما أن طبيعة العملية عكست ذكاء وحنكة في ادارة الصراع، تحطيم للصمت وعدم القبول بالاغتيال، وفي نفس الوقت عدم التهور والتصعيد غير المحسوب، وقد سيطرت على لهب المعركة بصورة تثير الاعجاب، وربما في عمليتها “كسر الصمت” كسرت حركة الجهاد حواجز داخلية وفيتو غير معلن، حيث لأول مرة تقود مسؤولية معركة من ألفها الى يائها وتكون العنوان الوحيد لجهة التفاوض، الأمر الذي يكسبها الكثير من النقاط ويبوئها موقعاً نوعياً أكثر تقدماً بين صفوف المقاومة، وهذا ما ركز عليه الاعلام الاسرائيلي في قراءته لمردود نتائج المعركة على حركة الجهاد، حيث كتب الكثير في الأيام الأخيرة عن نجاح حركة الجهاد في أن تشكل تحدياً كبيراً لسلطة حماس يعيد للأذهان تجربة حماس مع السلطة قبل أحداث 2007.
اسرائيل لن تسلم بسهولة بنتائج “كسر الصمت”، كما لن تتخلي عن فرض معادلتها الجديدة إذا ما كان بإمكانها المضي في تطبيقها مستقبلاً، نتوقع أن تلجأ اسرائيل في غضون الأسابيع القريبة الى القيام بتنفيذ اغتيال وأعمال عدوانية محدودة لجس نبض استعداد المقاومة وجاهزيتها للرد، وستمتص الرد في حال وقوعه، وستزيد من وتيرة عدوانها في حال انضباط المقاومة وامتناعها عن الرد.