الحراك الشديد، والحيوي في ملفات «الداخل الأردني» بعد عودة الملك عبدالله الثاني من رحلة خاصة استمرت أيامًا قلائل في لندن في الأرجح، له علاقة مباشرة بترتيب «أولويات وطنية» بعد تراكم «قناعات إقليمية وعربية» محصلتها المباشرة تجنب «المواجهة والصدام» مع نادي الحلفاء التقليدي الذي يضم الولايات المتحدة والسعودية، حتى وإن كانت الخلفية ملف «القدس» وما يلحقها من توابع لها علاقة بالقضية الفلسطينية ومستحقات ما تدعى بـ «صفقة القرن».
مباشرة بعد استشعار حجم «الضغط المصري والسعودي» تحديدًا على الأجندة الأردنية في مواجهة قرار الرئيس دونالد ترامب، اتّجه مركز القرار الأردني لورشة تفعيل متعددة الأجنحة لها علاقة بالقضايا والملفات الداخلية. وحركة مركز القرار هنا كانت برسائل غاية في المباشرة بعنوان: «سنعود بعد أسابيع من المواجهة مع إدارة ترامب إلى قضايانا ومصالحنا» من دون أن يعني ذلك التفريط بشرعية المطالب العربية بالقدس، أو يعني بالمقابل «دفع ثمن» وكلفة المواجهة، خصوصًا في ظل تركيز أكبر دولتين في المجموعة العربية على نظرة «واقعية» من الملموس أنها لا تسعى للتصعيد في ملف القدس.
الجرعة الأساسية
هنا يمكن بوضوح تلمس الجرعة الأساسية في هذا الخطاب بعد المداخلات الملكية المهمة جدًا التي شهدتها جلسة نخبة من متقاعدي الشمال العسكريين في منزل اللواء المتقاعد ثلجي ذيابات، الذي تقول الحيثيات إنه خدم في القوات المسلحة في معية الملك عبدالله الثاني شخصيًا، وقد تخرج في معيته من كلية ساند هيرست العسكرية وفقا لمعلومات خاصة حصلت عليها «القدس العربي».
اللواء ذيابات ليس من الشخصيات المعروفة جدًا إلا في السياق العسكري الاحترافي. لكن محطة القول الملكي المفاجئ في القضية الفلسطينية تؤشر على أن التشخيص الملكي الواقعي الجريء للحالة العربية بعد «وعد ترامب» وفي انتظار صفقته الشاملة تقصد أن يبرز من عمق مؤسسات النخبة العسكرية حيث صدرت الرواية عن اللقاء أصلاً من المؤسسة العسكرية نفسها، وبعد أقل من 24 ساعة على اجتماع آخر لرئيس الأركان محمود فريحات ونخبة أخرى من المتقاعدين العسكريين، أعلن فيه تحقيق «القصاص» لشهداء القوات المسلحة من عصابات الإرهاب بعد عملية مطاردة استخبارية معقدة في «أوكار الأشرار».
طرح موضوعات وتعليقات مهمة جدًا في أكثر الشئون السياسية إثارة للجدل، وسط نخبة العسكر العاملين والمتقاعدين، مقصود، ويعيد الأردنيين إلى مربع دولتهم الأول والأساسي، حيث مؤسسة ملِكِية وأخرى عسكرية وسيادية، بالتزامن مع خطاب يُعلي من شأن «المصالح الوطنية» التي وصفها الملك في منزل الذيابات بأنها «فوق الاعتبارات كلها».
الاتجاهات الأحدث في تشخيص حالة «القضية الفلسطينية» سجلت علامة فارقة في اللهجة الملِكِية الأردنية أمس الأول، ليس فقط لأن إدارة ترامب «رفضت النصائح» أو لأن المجموعة العربية «متباينة في الأولويات والاستراتيجيات».
ولكن أيضاً لأن الهرم الأردني يقول اليوم، بعبارة صريحة إن الشعب الأردني لن يدفع ثمن وتكلفة «الوضع الإقليمي المؤسف» وإن مرحلة الاعتماد على الذات ستتبعها اليوم مرحلة «الاهتمام بالذات» لأن الفراغ مع الولايات المتحدة تحديدًا «لا يمكن تعويضه» وسيضر المصالح الحيوية الأردنية، في استنتاج له علاقة بالإشارة التي وصلت من واشنطن للحكومة الأردنية بعنوان: «المساعدات المالية ستستأنف للأردن» ولن تتعطل بعد مواجهة القدس، وهو وضع يتطلب «التهدئة» وتجنّب المجازفة والمواجهة أردنيًا.
عمّان؛ سياسيًا، وبهذا المعنى «تعتذر» عن الاستمرار وحدها من دون سند عربي او بديل دُولي، وحتى مع موقف فلسطيني غير ثابت حسبما يُقال في أروقة الدبلوماسية الأردنية.. تعتذر عمّان هنا عن عدم «التصدي والمواجهة» بجرعة محسوبة تُعيد ملف القضية الفلسطينية إلى «مسئولية المجتمع الدُّولي».
هذا على كل حال اعتذار سياسي مدروس، لا يتخلّى عن القضية الفلسطينية بقدر ما يبرز الأولويات الأمنية الوطنية كما يفعل الآخرون. وهو على نحو أو آخر، إقرارٌ بإخفاق المنظومة العربية الرسمية في تحصيل فارق او هامش ينتصر للقدس، وتعبير عن الحرص بأن «لا نجازف بعمّان ما دامت القدس كانت وستبقى محتلة». أهم ما قاله عاهل الأردن بالخصوص حول مسؤولية المجتمع الدُّولي وليس بلاده او السلطة الفلسطينية فقط، عن القضية الفلسطينية يعبّر عن محطة تستقر فيها البوصلة الأردنية عند؛ أولًا: تجنب التصعيد مع إدارة ترامب والبقاء تزامنا في «المدار الأمريكي» وبالقرب منه السعودي.
وثانياً: عند التخلي وفي وقت قصير عن فكرة تنوع «المحاور» أو الاقتراب من محور إيران- تركيا، ما تطلب عمليا تفويت الفرصة على تلك الاجتهادات التي تقترح اللعب مع إيران او تركيا والنظام السوري نكاية بإسرائيل والسعودية وطاقم ترامب. تلك لهجة أردنية جديدة تمامًا بعد إيقاعات وعد ترامب بخصوص القدس وفي ظل الضغط العنيف الذي مورس على الأردن والسلطة من قبل محور ابو ظبي- الرياض- القاهرة.
نوع من الضغط
لكنه نوع من الضغط الذي يتهيّأ عمليًا لاستحقاقات أكثر أهمية قد تبرز لاحقًا حسب مصادر «القدس العربي» حيث تسوية شاملة برعاية أمريكية لملفات أخرى حساسة في القضية الفلسطينية أهمها اللاجئين والحدود وقبل حزيران/يونيو المقبل.
لذلك كله، وفي ضوء المستجدات تتطور أولية «العودة للذات والداخل» في الأردن فتصدر جملة نقدية ملِكِية للمؤسسات التي لا تتابع كما ينبغي الأوراق النقاشية الملِكِية ويمتدح أداء البرلمان، ويطالب بالمزيد من التعاون مع السلطة التنفيذية، وتشرح المؤسستان العسكرية والأمنية للرأي العام ما تَيَسَّر من مواجهات استخبارية مع «مجموعات وعصابات إرهابية» في الداخل والمنطقة بعد حسم ملف الميزانية المالية والخبز والضرائب.
ثم في الأثناء يشرف رئيس الديوان الملِكِي فايز الطراونة، وبرغم حالته الصحية على سلسلة لقاءات، ويشارك مع آخرين في مؤسسة الديوان الملِكِي بسلسلة موائد طعام سياسية وبرلمانية، ويظهر بعض «وجوه الماضي» فجأة، ويعترض رئيس الوزراء هاني الملقي بحدة على حادثة «ضرب مستثمر» ويستمر مشروع «إعادة الهيكلة» وتبدأ مواجهة بيروقراطية مع شبكة موظفين «مشتبه بهم» في المسؤولية عن توسع أفقي في ظاهرة الفساد الصغير.
تلك كانت مؤشرات الحراك في الشأن الداخلي، بإختصار، بعد بروز «الاعتذار» السياسي المشار إليه، الذي يُظهر بدوره مهارة التقاط ما هو جوهري في الواقع والإمكانات.