عاصرنا في غضون نصف القرن الماضي، الخمسين عاما من الاحتلال، نحو دزينة كاملة من الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، ولم يكن رؤساء هذه الدولة العظمى كليي القدرة الذين يشبهون الأباطرة في التاريخ او أنصاف الآلهة، مشفقين في غالبيتهم على شقائنا او منصفين لمظلوميتنا، وعلى العكس من ذلك كانوا في حقيقة الأمر رعاة لإسرائيل ومحبين لها. اما الاستثناء الوحيد في هذه المسيرة فقد كانت الفرادة الشخصية التي كانت تميز طباعهم أحياناً بين القسوة والنعومة، الذي أحال تعاملهم مع صراعنا مع الاحتلال الى نوع من الهبة الساخنة والهبة الباردة. أما الحقيقة الصلبة التي لم يستطيعوا تجاوزها او تجاهلها فهي نحن أي القضية الفلسطينية.
نصف قرن من الخبرة الطويلة والعلاقة الأقرب الى التصارع وبالمحصلة الأزمة المنكودة، كانت كافية ليس لمعرفتنا ولكنها كافية لوعينا ولأن نكون اكثر مناعة وقوة وثقة بالذات للتعامل مع هذا الأخير، الذي يبدو كما لو انه يزعج العالم كله ويثير حيرته. والمسألة واضحة وفي نظرية المنهاج العلمي المدرسي القائم على الملاحظة والتجربة، ان اثني عشر من هؤلاء الرؤساء ومن التحالف الاستراتيجي الوطيد بين أميركا وإسرائيل، لم يؤد إلى زوالنا او اجتثاثنا ونهايتنا او إخراجنا من اللعبة او الحلبة، وإنما عكس ذلك ما حدث في غضون هذه العقود الطويلة ودونما أُم رؤوم ترعى شقاءنا، أشبه "يا وحدنا" فعلا، وكان رؤساء أميركا يفعلون ما أدانه السيد المسيح "من له فيزاد ومن عليه يؤخذ منه".
ونحن من علينا ويطلب منا ان نقدم التنازل ونعطي، فان مأثرتنا وبطولتنا ليست في قدرتنا المعجزة على الصمود والقدرة على الطفو فوق الماء والبقاء، ولكن بأننا اليوم على ارضنا نعم ورغم الاحتلال، ليس اننا الشوكة في الحلق فقط، ولكننا اللقمة الكبيرة التي لا تستطيع إسرائيل بلعها. وأصعب من ان يستطيع كائن من كان في البيت الأبيض تجاهلها او تجاوزها. وقال عرفات مرة وهو محاصر في رام الله: لا تهتموا بما يقولونه، ان المهم هو ما نقوله نحن وما نفعله.
هل هو اذن استثنائي ومختلف في مساوئه على الأقل بالنسبة لنا على جميع هؤلاء أسلافه؟ وهل يستدعي هذا الخوف منه ما يبدو هنا لجوءنا الى هذا النوع من استدعاء التاريخ، لأجل تدعيم القوة والثبات للذات والنفس؟ والجواب ربما نعم، ان هذا رئيس لهذه الإمبراطورية استثنائي ومختلف. الم تهتز مقاعد أربعة من أسلافه الذين كانوا يجلسون وراءه وهو يلقي خطاب التنصيب؟ ويظهر هذه الجرأة بل الوقاحة كما لو انه يلقي بدش ماء بارد على عهودهم وعهود من سبقوهم؟ وكأن تاريخا جديدا وعهدا جديدا لأميركا يبدأ معه الآن.
وفي مفارقة تبدو صادمة للعالم كما لو أنه يدلي ببيان الانقلاب المعلن الأول، او الثورة على أميركا التقليدية. يتقمص دور الثوري الراديكالي الذي يعيد السلطة وحكم الإمبراطورية الى الطبقة العاملة في هذا الرداء العنصري والطائفي، وهو يقصد العمال البيض ليس الا، في لحظة تبدو فيها الإمبراطورية وكأنها تمهد الطريق الى اندثارها وانسحابها وخروجها من العالم وتفقد عقلها.
وهذه لحظة مفارقة لنا وللعالم، فهل نرى الآن وكأننا نذرف الدمع على أميركا القديمة سيئة الصيت حاكمة العالم وشرطيته؟ وكأننا اعتدنا على هذا الوضع ونرى اليه وعلى كل مساوئه وكأنه يمثل نوعاً من الحفاظ على قواعد اللعبة؟ وهذا يرمز الى الحاكم المرجعية التي نحتكم اليها ونناشدها ونسألها ونشكو إليها بدلا من الفراغ وفقدان هذه الزعامة المرجعية. وهو ربما ما عبر عنه قبل أيام صائب عريقات بصورة غير مباشرة، حين قال: لقد صدمت من عدم تنديد هذه الإدارة الجديدة بالقرارات الأخيرة لحكومة نتنياهو لبناء هذا العدد الكبير من الوحدات الاستيطانية.
لكن، هل نلجأ هنا في محاولتنا للتوصل الى اليقين الى محاورات سقراط الفلسفية من اجل التوصل الى هذه المعرفة؟ ونطرح السؤال هنا على طريقة سقراط، فاذا كانت أميركا التقليدية هي السيئة والظالمة والشريرة، او ليس الانقلاب عليها هو الذي يمثل الخير والإنصاف وإزالة الشر والظلم في ذاته؟
اما من زاوية التحليل الماركسي المادية الجدلية، وهي الأقرب لمساعدتنا على هذا الفهم للمشاكل التي يطرحها هذا الرجل، فان ما يحدث وما يبدو انقسام أميركا على نفسها وظهور دونالد ترامب في هذا التوقيت، انما هو تعبير فج وفاقع في البنية الفوقية السياسية والأخلاقية الفكرية، لواحدة من تجليات أزمة الرأسمالية مع نفسها، ليس في قلب الرأسمالية القديم أوروبا وانما فيما بدا أعظم تجليات قوتها العسكرية والسياسية في التاريخ. وان انفجار هذا التناقض الداخلي انما في رمزيته ودلالته التاريخية ربما يشبه الانعطافة التي حدثت في الإمبراطورية الرومانية، بعيد مقتل يوليوس قيصر في الصراع الفوقي الداخلي.
وهل كانت مصادفة اذن في سياق هذا التحليل انفضاض مؤتمر دافوس الاقتصادي منتدى الرأسمالية الأكبر كل عام، مع حفل تنصيب وخطاب ترامب القومي المتطرف الذي يعبر عن سحب أميركا الى الانكماش حول داخلها وعزلتها مرة أخرى؟ والتعبير في حصيلة مناقشات هذا المؤتمر لأول مرة عن المخاوف التي هيمنت على هذه المداولات من انهيار العولمة والتجارة الحرة. على خلفية تأثير دونالد ترامب ونزعته القومية، والردة المتطرفة اليمينية التي بدأت الآن في أميركا وانتقالها غدا الى أوروبا، وتاليا ان يؤدي كل ذلك الى تفكك الاتحاد الأوروبي؟ وحيث يبدو الآن ان خارطة جديدة للتحالفات تبرز من جديد أميركا وبريطانيا في مواجهة فرنسا وألمانيا، الرأسمالية التقليدية القديمة في مواجهة القومية المتطرفة الجديدة.
لكن هل هذا الاستنتاج سوف يصمد مع الزمن؟ والجواب كلا. وإذن الى الفرضية او المقاربة الأخيرة، وهذه المقاربة مفادها ليس الاحتفاء اللافت بالرئيس الصيني في دافوس بديلا عن غياب الدور القيادي لأميركا، ولكن التأمل في مثال الرئيس محمد مرسي في مصر والإطاحة به من لدن الدولة العميقة أي تقاليد الدولة القديمة نفسها.
فهل هذا يعني ان هذا رجل عابر في التاريخ بمثل صعوده الفجائي الذي بدا كغفلة من الزمن والتاريخ، اذا كانت أميركا العميقة التي سوف تقاوم وترفض التنازل او التخلي عن تقاليدها الإمبراطورية، سوف تحاول الإطاحة بهذا القادم الجديد الذي يحاول حرفها عن ارثها وتحويلها الى كم مهمل او دولة وأمة كباقي الدول او الأمم؟ وإذ اتضح ان الإعلام الأميركي والمخابرات كما النخبة الثقافية والسياسية والمرأة تقف ضده، ولا يتردد الرجل في إظهار الخلاف والمشاكل والإزعاج إلى كل العالم، وأخيرا في المفاجأة ضد روسيا في سورية فإن وجهة السفر واضحة.
هذا الرجل اذن ليس مشكلة لنا ولكن مشكلة مع أميركا نفسها والعالم، تماما كما ان مشكلة نتنياهو هي مع إسرائيل نفسها. وفي هذا الاصطفاف مع العالم وهذا الوضع لا يجب ان يقلقنا او يدعونا للخوف او الفزع، وعلينا ان نأخذ عدم الإقدام على تنفيذ نقل السفارة للقدس كعلامة واضحة على أن المسألة الفلسطينية من بين جميع قضايا العالم هي الخط الأحمر.
لكن الا يظل احتمالا او افتراضا ممكنا بل واقعيا رغم كل ما سبق الإشارة اليه من افتراضات، ان مواصلة الرجل إحاطة تنفيذ وعده الوحيد حول نقل السفارة الى القدس بالغموض، إنما نابع من إيمانه وافتتانه بعقد الصفقات. وانه بهذا المعنى يحاول الاحتفاظ بهذه الورقة الى حينه كجزء من رغبته التي لم يخفها بسعيه لوساطة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومرة أخرى انسجاما مع فرادته بل وانقلابه على أميركا التقليدية وأسلافه الذين فشلوا أو لم يعملوا كفاية لتحقيق هذا السلام، الإنجاز كما وصفه لأجل الإنسانية، ويكون بذلك قد حقق إنجازه وربما ارثه المبكر الأكبر. وقد يساعده في ذلك ما يبدو تعبيد الطريق أمامه للعب هذا الدور الانزياح الوشيك لبنيامين نتنياهو، وانقلاب الحكم والخريطة السياسية نفسها داخل إسرائيل. وهو المتغير الذي ربما كان يتمناه وينتظره باراك أوباما وجون كيري ويحسدانه عليه الآن.


