بعد أن سارع إلى إلغاء ما سمي خلال السنوات الماضية بقانون أوباما للتأمين الصحي، قام الرئيس الأميركي الجمهوري اليميني المتشدد دونالد ترامب، وقبل مرور أسبوع واحد على تنصيبه واستلامه مهام منصبه رسميا، بتوقيع عدد من الأوامر التنفيذية، فيما سمي بالأربعاء العظيم، تهدف إلى تقييد الهجرة إلى الولايات المتحدة في وجه المهاجرين من سورية وست دول شرق أوسطية، هي العراق، ليبيا، اليمن، السودان، الصومال وإيران، تشمل هذه الأوامر وضع قيود تستمر لعدة شهور، كما سيوقف إصدار تأشيرات الدخول، إضافة إلى إصدار حظر يمتد عدة شهور على قبول اللاجئين من كل الدول، إلى حين أن تشدد وزارة الخارجية والأمن الداخلي من إجراءات الفحص والتحري .
هذا في الوقت الذي ينوي فيه ترامب بناء جدار على طول الحدود مع المكسيك، كما كان قد تعهد إبان حملته الانتخابية، بل وكما عاد وأكد عبر تغريدة له على تويتر مساء الثلاثاء الماضي، حيث بشر بيوم الأربعاء العظيم، بالتوقيع على عدة أوامر وفي وزارة الأمن الداخلي بالتحديد، ومنها بناء الجدار المشار إليه !
من الواضح أن ترامب لم يضيع الكثير من الوقت، ليسير قدماً بسياسته القومية اليمينية المتشددة، وبالرغم من كل ما يقال _ وهو صحيح _ من أن الولايات المتحدة، إنما هي دولة مؤسسات، لا يقودها حاكم فرد، خاصة الرئيس، إلا أن انتخاب ترامب بالرغم من وضوحه الانتخابي، يبيح له أن " يخلص " لشعاراته الانتخابية، وان ينتهج سياسة " قومية / بيضاء " من اجل أن يعيد عظمة أميركا، كما قال، وان يستمر في رفع هذا الشعار الذي لا يخلو من نزوع فاشي، يرى نفسه ويرى بلده أفضل من الآخرين، وبالطبع فانه لن يكون بمقدور الرجل أن يعيد الولايات المتحدة إلى عهد الفصل العنصري، بين مواطني الدولة من أصول أوروبية _ بيضاء، ومواطني الدولة من أصول أفريقية سوداء، مع أن كلاهما جاء وافدا على بلاد كان يسكنها ما سمي بالهنود الحمر، إلا انه يسير بسياسة الفصل بين مواطني دولته ومواطني الدول الأخرى من العالم، خاصة من الجيران اللاتينيين، ومن الأفارقة والآسيويين، قدما.
ما ينطبق على المواطنين ينطبق بالضرورة على الدولة، ذلك أن وضع الحواجز والفواصل بالضد من عصر سمته الأساسية، بعد ثورة الاتصالات، هي التواصل والانفتاح، يعني مزيدا من عزلة الولايات المتحدة عن غيرها من دول العالم، فعلى الأغلب أن أميركا / ترامب سترى نفسها دولة من مستوى أرقى من دول العالم الأخرى، دول أميركا اللاتينية، دول أفريقيا والدول الآسيوية، ولأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له بالمقدار ومعاكس له في الاتجاه، حسب اينشتاين، فان النظرة الفوقية للولايات المتحدة تجاه الآخرين، ستقابل بنظرة بغض وامتعاض من قبل الآخرين.
وهذا يعني بان نفوذ أميركا ومستوى قبولها في العالم، إن كان كزعيم أو قائد له، أو حتى كراع أو مشارك في حل مشاكله، كما هو حال الشرق الأوسط، سيتراجع كثيرا، ما يعني " انسحابا تدريجيا " أو على اقل تقدير انسحابا أبيض أو التوقف عن التوغل في مشاكل العالم الخارجي، وخاصة تلك المناطق التي تشهد توترا أو حروبا، كما هو حال الشرق الأوسط.
أن تحدد أوامر ترامب في يوم الأربعاء " العظيم " _ والعظمة باتت شعاراً لترامب _ دولا بعينها، منها العراق وليبيا، كذلك اليمن وسورية، حيث أن العراق باتت تحسب على أميركا منذ إسقاط صدام حسين، كذلك تعتبر ليبيا بعد إسقاط معمر القذافي، محسوبة على الغرب، أما اليمن وسورية فمنها قوى حليفة للغرب وتحارب معه قوى أخرى داخلية، يعني بان تغلق هذه الدول أبوابها في وجه اليانكي، وان إغلاق واشنطن لأبوابها أمام العديد من دول العالم، والتشدد في فتح أبواب التجارة الخارجية وغيرها، أن تعتمد قوى ودول عديدة على دول أخرى، مثل روسيا، ما يؤكد بان كل انسحاب لأميركا من أي مكان سيقابله توغل من روسيا خاصة مساو له بالمقدار، وفي نفس المكان.
هذه النزعة، التي تجد رمزها الواضح في بناء الجدار بين الولايات المتحدة وجارتها التاريخية، المكسيك، يذكر جدا وتماما بما تقوم به إسرائيل من إقامة جدران العزلة الفاصلة ليس بينها وبين الفلسطينيين _ جدار الفصل العنصري، في القدس والضفة الفلسطينية _ وحسب، ولكن بينها وبين مصر والأردن، سورية ولبنان، يوضح أن أميركا / ترامب، تتحول إلى دولة " يهودية " بدورها، بهذا المعنى أو ذاك، والدولتان _ أي إسرائيل وأميركا _ تتوجان واقع كونهما دولتين معزولتين في الأمم المتحدة، الإطار الذي يجمع العالم بدوله المختلفة والمتعددة، ولعل هذا دليل أكيد على أنهما دولتان في الجوهر تفتقران للديمقراطية، أو أنهما تنزعان عن الديمقراطية جوهرها الإنساني الذي يساوي بين البشر، وهي على الأغلب وفي ابعد تقدير ديمقراطية أثينية، أي تخص وتقتصر على " أفراد الشعب الخالص أو المختار " ولا تنطبق على غيرهم من البشر، ولعمري هذا هو لب الفاشية والعنصرية.
لعل هذا المنحى الخطر جدا وللغاية، الذي ينحو إليه ترامب ببلاده، هو الذي يدفع مئات ألوف الأميركيين، ومن ثم ملايينهم للشعور بالخطر على مستقبل بلادهم، كما حدث مع اليسار الليبرالي الإسرائيلي، الذي بصمته عما ارتكبه اليمين الإسرائيلي من مجازر بحق الشعب الفلسطيني، انقلب عليه في نهاية الأمر، حيث انتهى بإرساء قواعد دولة اليمين والتطرف، التي تضيق ذرعا بالآخرين، وعادة ما يبدأ الأمر بالآخر من خارج حدود الدولة، لينتهي بالآخر داخل حدود الدولة، ذلك أن الفرز العنصري لا يتوقف عند حدود.
ولأن الولايات المتحدة دولة مركزية على مستوى العالم، فان كل مواطني العالم معنيون بوقف هذا الانحدار في سياستها الخاصة بعلاقتها مع غيرها، لأن النتيجة ستكون في أحسن الأحوال أن تعود أدراجها إلى ما وراء المحيط، تماما كما كان حالها قبل الحرب العالمية الأولى.
Rajab22@hotmail.com


