ليست بريئة تلك الزيارة التي قام بها مشعل ورفاقه للملكة العربية السعودية، ويمكن لأي متابع سياسي أن يدرك أن قادة "حماس" في قطر يريدون ثلاثة أشياء منها: استمرار الضغط على مصر لإبقاء معبر رفح مفتوحا، مساعدات مالية لتنظيم "حماس" ولغزة، ورفع الحصار عن الإخوان المسلمين في الدول التي للسعودية تأثير عليها.
ليس في كل ذلك ما يعيب الزيارة، وهي أهداف مشروعة لتنظيم سياسي يحكم غزة ويرغب في جعل الحياة ممكنة ومحتملة لسكانها. وهي أهداف مشروعة أيضا لتنظيم يعتمد على دعم تنظيم الإخوان المسلمين له في العالم العربي.
لكن هذه المشروعية تتبدد إذا كان المقابل لذلك هو تعميق الصراع الطائفي في العالم العربي وما يرافق ذلك من سفك لدماء عشرات الآلاف من العرب.
سيقول قادة "حماس" بأن ذلك غير صحيح وأن علاقتها بالعالمين العربي والإسلامي قائمة على قاعدتي التوازن وعدم التدخل في شؤون تلك الدول. وسنقول بأن هذا الكلام قد قيل سابقا عندما غادرت "حماس" دمشق بناء على طلب حلفائها في قطر وتركيا ليتبين لنا بعد ذلك أن ما لا يريد التدخل في شؤون الآخرين قد شكل تنظيماً مسلحا في مخيم اليرموك تحالف مع جبهة النصرة التي انقلبت عليه وأَمعنت في أعضائه قتلاً وتشريداً مع شريكها داعش قبل أشهر محدودة فقط.
اليوم لم تعد القضية الفلسطينية موجودة على أجندة أية دولة عربية وجميعها مشغولة إما في السعي للحفاظ على نفسها من التفكك كما هو حال سورية والعراق واليمن وليبيا، أو منكفئ على نفسه بسبب الصراع على السلطة كما هو حال مصر حاليا أو بسبب الأزمات في محيطه مثل الأردن، أو غارق حتى أذنية في صراع مذهبي هدفه الوحيد إضعاف النفوذ الإيراني في المنطقة العربية كما هو حال دول الخليج العربي. حتى الدول البعيدة مثل تونس والجزائر فإن أجندة محاربة الإرهاب تتصدر أولوياتها. لذلك فإن كل خيار سياسي فلسطيني يُنظر له من قبل هذه الدول ليس في إطار علاقته بالصراع مع دولة الاحتلال ولكن من زاوية تقاطعه مع أجندة هذه الدول وأولوياتها.
قيادة "حماس" تعرف ذلك ولهذا السبب تحديداً فإن زيارة وفدها للعربية السعودية والتفاهمات التي حصلت خلالها لا يمكن أن تكون بريئة.
"حماس" وعلى لسان العديد من قادتها قد أيدت عاصفة الحزم السعودية في اليمن. والإعلام كان قد نقل أن قادة "حماس" قد تطوعوا للتقريب بين السعودية وحزب الإصلاح اليمني الذي أيد بدورة الأعمال العسكرية وشارك فيها. ونخشى أن تكون "حماس" قد قررت الدخول على خط النار في اليمن لدعم مجموعات الحزب العسكرية في مواجهة خصومهم الحوثيين، كما فعلوا في سورية.
لكن الدعم العسكري ليس هو المهم لانه لا يستطيع أن يؤثر في موازين الصراع اليمنية. المهم حقيقة، هو الاصطفاف السياسي المذهبي الذي يُجرد إيران من الادعاء بأن دعمها لجماعات محددة في الشرق الأوسط هدفه مواجهة إسرائيل وأن خلفياته ليست مذهبية. وقوف "حماس" الى جانب السعودية يعطي شرعية للحرب الطائفية التي تقودها دول الخليج العربي باسم الدفاع عن "السنة" العرب في مواجهة "الشيعة" العرب المدعومين من إيران.
هذا الشكل من الدعم السياسي الذي تقدمه "حماس" لمشروع دول الخليج العربي مقابل حفنة من الدولارات والتسهيلات نتائجه خطيرة على العرب وعلى القضية الفلسطينية أيضاً. عربياً، هذا الدعم السياسي "المذهبي" يساهم في زيادة الصراعات والاقتتال في العالم العربي ويبدد ما تبقى من طاقات وقدرات لدى العرب في حروب وهمية المستفيد الوحيد منها أنظمة الاستبداد والجماعات التكفيرية وقبلهم وفوقهم دولة الاحتلال. وفلسطينيا، هذا الدعم يجعل من الصراع مع دولة الاحتلال مسألة ثانوية لأن العدو هنا ليس ما يعرفه العرب بفطرتهم منذ النكبة الفلسطينية قبل سبعة عقود ولكنه إيران التي كانت حتى قبل أربع سنوات الداعم الوحيد للمقاومة الفلسطينية في غزة.
لا يمكن بالطبع فصل هذه الزيارة عن الحديث عن هدنة طويلة المدى نسبياً بين "حماس" وبين "إسرائيل" لأن المشروع الجديد الذي دخلته أو تريد الدخول فيه قيادة "حماس" يتطلب هدوءا على خط المواجهة مع دولة الاحتلال. المواجهة تعني إحراج المحور الخليجي الذي قَدم المواجهة مع إيران على حساب أية مسألة أخرى وهي تعطي المصداقية لإيران التي تدعي بأن الخطر الأساسي على العرب قادم من إسرائيل وليس منها. الهدنة طويلة المدى ترفع الحرج عن الأولى وتحرم الثانية من تأكيد صحة ادعاءاتها.
يمكن بالطبع فهم التحليل النهائي الذي أوصل قادة "حماس" الى هذا الخيار وهو فهم يستند أولا الى أن المصالحة مع "فتح" وتقاسم منظمة التحرير وعودة الوحدة بين الضفة والقطاع مستحيلة لأن الطرفين لديهما مصالح وأجندات لا يمكن جسرها، ويستند ثانيا الى أن الصراعات والانقسامات في العالم العربي ستأخذ سنوات طويلة قبل أن تعود القضية الفلسطينية الى واجهة الأحداث في الشرق الاوسط، ويستند ثالثا الى أن ما يسمى بمحور المقاومة "سابقا" قد أصبح في خانة الدفاع عن النفس وليس في وضعية الهجوم كما كان الحال سابقا. بمعنى، أن أكثر ما يسعى اليه هذا المحور اليوم هو الصمود وليس مواجهة إسرائيل.
وقد يكون هذا التقدير صحيحاً ولكنه بالتأكيد لا يجب أن يوصل أحداً، خصوصاً، إذا كان محسوبا على المقاومة، الى أن يصطف مع محور بينه وبين دولة الاحتلال تنسيق وتحالف غير معلن، وهدفه الأساس تعميق وزيادة حدة الصراع المذهبي في العالم العربي.


