اذا كنتم تساءلتم احيانا ماذا يفعل منتَخبو الجمهور وخُدامه في وقت فراغهم فان الكشف عن "الملف الاسرائيلي" في "ويكيليكس" يعطي جوابا عن ذلك على الأقل: انهم يثرثرون في أحاديث خلفية مع دبلوماسيين امريكيين. لا يمكن ان نجد الكثير من الفائدة الاخرى في جبال الوثائق وحان وقت اخراج الهواء من بالون علاقات جوليان آسنج العامة. يمكن ان نختار هذا الرجل الغريب باعتباره عبقري تسويق هذا العام، وأن نتمنى له محاكمة عادلة في السويد وأن يعود الى التناسب. إن الكثير من قوة جذب وثائق "ويكيليكس" كامن في كونها مادة "سرية" و"تسربت من الجهاز". لكنه ليس لها وزن نوعي كبير من جهة جوهرية. ينبع ذلك قبل كل شيء من هوية ذلك الجهاز. إن وزارة الخارجية هي جسم ضعيف قياسا بالبيت الابيض أو وزارة الدفاع أو مجلس الأمن القومي. وكان عصرها الذهبي الاخير في وقت ما في السبعينيات عندما أجرى وزير الخارجية هنري كيسنجر من اجل الرئيس ريتشارد نيكسون سياسة خارجية خلاقة في جنوب شرقي آسيا، وفي الشرق الاوسط ومع الاتحاد السوفييتي والصين. وليس الامريكيون وحدهم: فالحديث عن مسار عالمي كاسح تفقد فيه وزارات الخارجية من عظمتها. أحد الاسباب هو أنه في عالم تغطيه الاقمار الصناعية والشبكات الاعلامية الواسعة التي تقدمت جدا في طرق اتصالها، أصبح لعمل الدبلوماسيين أهمية أقل كثيرا. ويصدق هذا الامر ايضا على السفير الامريكي وفريقه، لكنه في اسرائيل ما زالت تُرى الدعوة من شارع اليركون طموحا كبيرا. وإن قائمة من جرى الكشف عنهم في وثائق "ويكيليكس" مدهشة حقا: رئيسة المحكمة العليا ورئيس الهستدروت ورؤساء الأذرع الاستخبارية وقادة مستوطنين وأمناء سر حركات سلام. لسبب ما ثبت منذ نشر الوثائق فرض عمل وهو ان المشاركين في هذه الأحاديث كشفوا عن تصورهم الحقيقي بدل الشعارات التي يروجون لها في الجمهور الاسرائيلي. لماذا في الحقيقة؟ هل جلسوا هناك مربوطين بأجهزة كشف الكذب؟ من قال إن الوضع ليس معاكسا تمام المعاكسة؟ يمكن أن نزعم ان هؤلاء الناس مالوا على أريكة السفارة الى إسماع كلام يلذ لمحادثيهم يعرضهم في ضوء متنور ايجابي. كل واحد دُعي ذات مرة الى محادثة كهذه يعرف خصوصية المقام. يُطرى الشخص من هؤلاء عندما يسألونه عن رأيه ويطلبون اليه أن يحلل الواقع. ولا يسارع أكثر الناس ايضا الى المعركة في أحاديث شخصية ويميلون الى البحث عن نقاط تماس واتفاق. هذه هي الطبيعة البشرية. فليس من المحقق أن تصدر الحقيقة في مناخ كهذا أو الحقيقة كلها، بيقين. عندما يجلس رئيس مجلس "يشع"، داني ديان، الى السفير الامريكي فمن الواضح أن من المريح له ان يتحفظ من عنف المستوطنين ويُعبر عن تفهم لاخلاء البؤر الاستيطانية. وحتى لو افترضنا ان هذه هي مواقفه الحقيقية فأي معنى لها في امتحان النتيجة في الميدان؟. قد تكون هذه هي النقطة المركزية في حكاية ثرثرة "ويكيليكس" كلها. إن البشرية تولي الكلام أهمية كبيرة جدا. ابتدع موشيه ديان ذات مرة حقيقة لاذعة إذ قال: الموتى موتى والأحياء أحياء. وبالهام من ذلك التصور وهو بسيط في ظاهر الامر، لكنه شديد العمق في الحقيقة، يمكن أن نصوغ ايضا حكمة اخرى فنقول: المتحدثون يتحدثون والعاملون يعملون. الشيء الوحيد المهم حقا هو الاعمال في الميدان التي تقرر الواقع أو تُغيره. أعلن بنيامين نتنياهو منذ وقت غير بعيد اعلانا حادا للمستشارة ميركل أولا ولعدد من الصحفيين المتحمسين بعد ذلك انه ينوي أن يخطب قريبا "خطبة سياسية" هي شبه "بار ايلان الثانية". من يهمه ذلك، وما الذي حدث بالضبط في الميدان منذ كانت "بار ايلان الاولى"؟. خطب اهود اولمرت في الكنيست السابقة "خطبة تشرتشلية"، وتورط آنذاك بحرب متسرعة فاشلة في لبنان. إن "خطبة الملك" مهما تكن ناجحة آسِرة هي فيلم تاريخي. والحياة الحقيقية لا تحدث على منصة الخطباء ولا في ردهة ضيافة السفير الامريكي ولا حتى في مجال "ويكيليكس" الوهمي.