الديمقراطية لم تعد "طريقة الحكم الاقل سوءا". ففي عالم اليوم، الديمقراطية هي النموذج الوحيد الذي يعرض سبيلا سلطويا معللا وقويا، يستند الى الافكار وليس الى مصالح مجموعة صغيرة والى العنف. هذه الحقيقة يثبتها اليوم ما يجري في مصر. فالانتفاضة الشعبية ولدت بالهام من الافكار الديمقراطية الغربية، والضعف الاساس للحكم الذي هو غير ديمقراطي ينكشف مرة اخرى، بعد ان سقطت الدكتاتوريات في اثناء القرن العشرين الواحدة تلو الاخرى. ضعف الديمقراطية هو في أن ليس فيها التوازن بين القوى المختلفة العاملة في المجتمع وفي الاقتصاد. فالقوة الوهمية لحكم الطغيان هي بالقشرة السميكة للجيش والشرطة، تلك القشرة التي يلف نفسه بها. في لحظة الحقيقة يتبين أن هذه مجرد قشرة، ليس فيها مضمون من التكافل الاجتماعي والثقة الحقيقية بالحكم. المشكلة الكبرى في مصر وباثار ما يجري فيها هي المسألة التي يدور حولها العالم بأسره على محاور السلامة السياسية. فالعالم العربي مفتوح بقدر أكبر اليوم على الغرب، روح الديمقراطية تتسلل الى مواقع واسعة فيه، ولكن لم تثبت أي دولة عربية حتى الان بانها قادرة دون تحفظ، من خلال التسليم التام، في أن تتحول الى ديمقراطية تذكر بشيء ما بالنموذج الغربي. الهيكل يقام: أحزاب، انتخابات، ممثلين، ولكن شيء ما في الافكار الاساسية، في المبنى الاساس للمجتمعات العربية لا يسمح بان تهب فيها رياح ديمقراطية كاملة. وحسب فهم الفرنسي عمانويل تود، فان هذا يعود الى مبنى العائلة البطرياركية – العشائرية، ولعل باحثون آخرون سيشرحون ذلك بشكل افضل. هذا هو السبب الذي يجعل الاحداث في مصر تثير خليطا متعذرا من الفرح والخوف، العطف والقلق. الوضع الحالي في مصر هو وضع من الفوضى، والفوضى ليست ديمقراطية. الديمقراطية مبنية على مؤسسات حكم ومبنى سلطوي. الدكتاتوريات مآلها الفشل، والفوضى غير قادرة على أن تخلق بديلا للديمقراطية. وهنا يكمن لمصر ولكل الانظمة العربية العدو المكشوف للديمقراطيات الغربية، الا هو الاسلام بلباسه المتطرف. الدين في اساسه هو عدو مرير للديمقراطية، كونه يكفر بوجود الحقائق المتضاربة في المجتمع ويتبنى مفهوم الحقيقة المطلقة. عندما يمنح القوة فان الافكار والمباني الديمقراطية لا تستطيع الوقوف في طريقه. في حالة الانظمة الدكتاتورية من نوع الحكم المصري، للدين تفوق واضح على حكم الجنرالات: فهو مبني ليس فقط على قشرة القوة، بل وايضا على الاستيطان في قلوب اجزاء واسعة من الشعب. وحتى لو كان في مصر ربع السكان يؤيدون الاخوان المسلمين، فان اليأس والفراغ السلطوي قد يدفعان اليهم جماهير واسعة اخرى من الشعب الفقير وعديم القيادة. في احداث 11 ايلول كان هناك من أعلن عن بداية الحرب العالمية الثالثة بين العالم الغربي الشبع والعلماني وبين الاسلام المتطرف من ايران وحتى القاعدة. في السنوات العشر التي انقضت تحرك العالم بين هدوء معين ومراجعة أكثر وعيا لقوة القاعدة، وبين التخوف الصحي من قوة ايران. ولكن التهديد بالحرب الثقافية لم يتبدد، وما يحصل في العالم العربي، في مصر، في لبنان، في تركيا ايضا سيؤشر الى المراحل التالية. في مصر أشرت الديمقراطية الى مرحلة لامعة في انتصارها، الا أنه يمكنه لها ان تتحول دفعة واحدة الى انكسارها.