خبر : التغلب على الرئيس / بقلم: الداد باك / يديعوت -- 4/2/2011

الجمعة 04 فبراير 2011 02:42 م / بتوقيت القدس +2GMT
التغلب على الرئيس / بقلم: الداد باك / يديعوت -- 4/2/2011



  ميدان التحرير – القاهرة – جلس ابراهيم في أحد المداخل الرئيسة لميدان التحرير ممسكا بلافتة. وكان حوله آخرون من الجمهور مثله. تدفقوا جميعا، في يوم الثلاثاء من هذا الاسبوع من اجل "مظاهرة المليون" الضخمة. لكن بين مئات آلاف اللافتات التي رُفعت في ذلك اليوم، برزت لافتة ابراهيم المتواضعة خاصة لغرابتها. لم يُكتب فيها "مبارك إرحل" ولا "خنزير صهيوني". كتب ببساطة في الورقة البيضاء التي جاء بها من البيت بخط يدوي، "حافظوا على نظافة الميدان".             وكي لا يشك داخلو الميدان به انه جاء الى هنا باعتباره نشيطا من احدى حركات حماية البيئة، حرص ابراهيم على ان يلوح للجمهور المنطلق سريعا بعلامة النصر من أصابعه. انتصار الثورة الشعبية الثانية في العالم العربي.             مرت لحظات كثيرة حاسمة وتاريخية في الاسبوع الاخير على هذا المكان. حظي الميدان الرئيس في العاصمة المصرية باسم "ميدان التحرير" على أثر انقلاب الضباط الأحرار الذي أنهى في 1952 نظام الحكم الملكي الفاسد. بعد ذلك بستين سنة تقريبا أصبح الميدان نفسه رمزا للتمرد الشعبي على فساد نظام الحزب الواحد الذي انشأه اولئك الضباط الأحرار وورثتهم برئاسة الجيش المصري. الثورة تأكل آباءها.             ربط خيط دقيق جدا لكنه ظاهر للعيان جدا هذا الاسبوع بين مئات آلاف المصريين الذين عادوا مرة بعد اخرى الى الميدان برغم الاختلاف الكبير بينهم. أصاب كثيرين منهم مثل ابراهيم، منذ اللحظة الاولى تقريبا لاحتلال الميدان على أيدي حركة الاحتجاج، وسواس نظافة دؤوب. فقد انتقل مئات المتطوعين وفي أيديهم قفازات بلاستيكية بين الجمهور في الساعات التي لم يكن من الممكن فيها التحرك بسبب الزحام، ممسكين بأكياس قمامة سوداء. وقد جعلوا فيها القمامة التي خلفها سائر المتظاهرين من بقايا الطعام وزجاجات الشرب، ولافتات الاحتجاج التي تم تركها. وليس عرضا ان اختار هؤلاء المتطوعون لانفسهم شعار – "حافظوا على مصر نظيفة" – الذي ينطوي على رسالة مزدوجة.             "هل معك قمامة"، سألني أحد المتظاهرين عندما جلست لأستريح على رصيف عند طرف الميدان وأضاف فورا، "أو مبارك".             لا تناضل حركة الاحتجاج الجماعية على نظام الرئيس القديم من اجل الديمقراطية فقط. فهي تحارب قبل كل شيء من اجل النقاء العام في الدولة التي يطأ فيها جهاز بيروقراطي حزبي يشتهي السلطة والمال والافضالات، المواطنين البسطاء. "لا تستطيع ان تفعل هنا شيئا من غير ان تدفع رشوة الى موظف حكومي"، يُبين لي احمد، وهو وكيل مبيعات في شركة مصرية كبيرة يستطيع أن يُعرف نفسه بأنه منظم نسبيا في نهاية العشرينيات من حياته، لكنه غير راض حقا عن الحياة التي فُرضت عليه في بلده.             لكن كان ثمة سبب آخر جعل المواطنين البسطاء يمرون هذا الاسبوع في الميدان مع مكانس – أو مجرد قطع كرتونية ممزقة – وينقلون من مكان الى مكان الغبار والقمامة والبقايا الصدئة لاشياء من مبنى الحزب الحاكم أو بقايا سيارات الشرطة. كانت الحاجة الى ان يحظوا بمناصرة الرأي العام العالمي عنصرا لا يقل أهمية في هذا الامر.             "يحاول نظام الحكم ان يعرضنا على أننا مجموعة من البرابرة"، يُبين لي ياسر، وهو طبيب اسنان في السابعة والثلاثين. "لسنا كذلك، نحن أناس حضاريون. يرأس حركتنا شخصان تلقيا جائزة نوبل. ويوجد حولك أطباء ومحامون ومحاضرون. لسنا مجموعة متطرفين نطمح الى إدخال مصر عصر عدم النظام. نحن أمة كبيرة ذات تاريخ طويل. ربما بسبب هذا تخافون أنتم في الغرب ما يحدث هنا. فهذا لا يستوي ورؤية العالم العربي غير متقدم ومتخلفا".             عاش ياسر في السنين الاخيرة في الكويت حيث يعمل في عيادة عامة ويؤجر مبلغا يساوي 12 ألف جنيه مصري كل شهر. تقف الأجرة المتوسطة لطبيب في القطاع العام في مصر على 300 جنيه. يعترف قائلا "لي هناك حياة جيدة، لكنني أريد أن أحيا جيدا في بلدي. ولهذا عندما سمعت عن بدء التمرد أخذت فورا أول طائرة الى القاهرة وجئت الى هنا. كان ذلك في يوم الجمعة الماضي. انتقلت الى والدي في البيت وأعددت لي حقيبة فيها كل ما أحتاج اليه، وخرجت لأصلي في المسجد وبعد ذلك جئت الى هنا. ومنذ ذلك الحين وأنا هنا ولن أتزحزح حتى يترك مبارك الحكم ويُحاكَم".             تم اجتياز جميع الحدود             لحركة العصيان الشعبي في مصر وجوه كثيرة. فالأثرياء يريدون الديمقراطية. والفقراء يريدون الرفاهة. والعلمانيون يطلبون حكما مدنيا. والمتدينون يأملون بدولة اسلامية. والشيوعيون يؤيدون العدل الاجتماعي. والناصريون يحلمون بالقومية الضائعة.             صبت كل هذه الطاقات هذا الاسبوع في ميدان التحرير واعتصمت فيه جنبا الى جنب، في لحظة نادرة من الوحدة الوطنية من الجدار الى الجدار تقريبا. يُشك كثيرا في أن تصمد هذه الوحدة اذا حصل المتظاهرون على مطلوبهم، لكن كان من الصعب ألا نتأثر بالاحترام المتبادل الذي أظهره هؤلاء الناس بعضهم لبعض والتعاطف الذي اجتاز الطبقات والآراء السياسية. تنقل نشطاء من الاخوان المسلمين ونساء بالغات واولاد ايضا بين المتظاهرين ووزعوا المشروبات والخبز والخضراوات والفواكه والحلوى بالمجان.             كان يمكن أن نرى في كل زاوية من الميدان في هذا الاسبوع ناسا يكتبون لافتات احتجاج مرتجلة. والى جانب الشعارات المبتذلة نشأ رويدا رويدا تنافس في الشعارات الأكثر حدة وتسلية على حساب الرئيس. لم يكن مبارك قط حبيبا حقا الى أبناء شعبه. فقد أُلصق به منذ ايام رئاسته الاولى لقب "البقرة الضاحكة"، باسم الجبن الفرنسي الشهير. فبعد عبد الناصر المتحمس والسادات الدرامي، بدا مبارك لمصر بلا وهج وبلا طابع. وقد يكون هذا هو السبب الذي يجعلهم لا يغفرون له ان صمد أكثر من كل زعيم آخر في مصر الجديدة.             اجتازت الكراهية في الميدان للرئيس وأبناء عائلته ورؤوس نظام الحكم، هذا الاسبوع حدود الذوق اللائق، وكشفت عن الوجه القبيح الكاره المحرض لهذه الثورة ايضا. فقد نبزوا مبارك بأنه "خنزير" و"كلب"، وصوروه بصورة هتلر والقيصر الروماني السفاح نيرون، وطلبوا إعدامه أو أن يُرسل الى "أسياده في تل ابيب". إن جعل مبارك "عميلا اسرائيليا" من سخرية التاريخ. فالرئيس الذي حرص طوال أكثر سني حكمه على إبقاء السلام مع اسرائيل في ثلاجة وعلى الامتناع من التطبيع مع اسرائيل، يتم تصويره الآن بأنه لحم من لحمها.             بلغت الروح المعادية لاسرائيل والمعادية للسامية احيانا في الثورة ذروتها في مظاهرة الملايين وبعدها. أخرجت الخطبة الحاسمة التي أعلن مبارك فيها انتهاء رئاسته في الخريف القريب مؤيديه الى الشوارع فجأة الذين بدأوا يُسمعون صوتهم وبدأوا العنف ايضا.             كان الوضع تناقضيا تقريبا. فمن جهة اتهم المتظاهرون في الميدان قائلين: "يستعمل اليهود مبارك للسيطرة على الشرق الاوسط". ومن جهة ثانية اتهم أنصار الرئيس اسرائيل بتنظيم الاحتجاج على النظام. "أي إنكار للمعروف"، قال لي حسن، وهو طالب جامعي شاب في الاقتصاد، في ذروة مظاهرة ليلية مرتجلة لأنصار الرئيس. "أرسل مبارك دباباته الى حدود قطاع غزة لحماية نتنياهو، وتحاول اسرائيل وامريكا الآن التخلص منه وفرض زعيم جديد منهم علينا؟".             لكننا لسنا المذنبين وحدنا. فقد كان من وجهوا اصابع الاتهام الى جيران آخرين حولنا. "هؤلاء الفلسطينيون الموجودون هنا منذ 1948، واولئك الذين هربوا من غزة في السنتين الاخيرتين، ليتركونا في هدوء وليعودوا الى القطاع"، يصرخ يسري، أحد رفاق حسن، وهو طالب جامعي ايضا، "ليتوصلوا الى اتفاق سلام مع اسرائيل، وليتقاسموا القدس بينهم وليدعونا نحيا حياتنا في هدوء كما نريد".             وعلى العموم اذا كان يوجد شيء يغضبهم على نحو خاص فهو النصائح التي تأتي من الخارج. "ليكف العالم الخارجي عن التدخل في شؤوننا. من البرادعي هذا؟ ما الذي فعله في حياته؟ عاش عشرات السنين في الخارج ويريد الآن أن يُغير مصر. نحن لا نريده. جاءنا مبارك بالسلام والاستقرار والرفاه، والآن تدفع منظمات دولية مالا الى متظاهرين في الميدان لتدمير كل شيء".             مخاوف وآمال             إن طالبة جامعية شابة، رأسها مغطى بنقاب ملون، جاءت الى الميدان مع لافتة تُذكر بأمور منسية. "اجل نستطيع"، يصرخ منها شعار الانتخابات ذاك لاوباما. تقول مبتسمة: "نحن نستطيع ايضا".             ما يزالون جميعا هنا يخافون عملاء النظام السريين، برغم أنهم يستسلمون بسهولة كبيرة لعدسات التصوير. إن بعض الحرية التي تم احرازها هذا الاسبوع بدماء مئات المتظاهرين، هو الحق في التمتع بعدة ثوان من الانكشاف والانتباه. أن تقول رأيك وتشعر بأنك شيء ما. يكرر الناس الذين أتحدث معهم مرة بعد اخرى الكلمات نفسها: "نريد أن نسترد كرامتنا". بيد أن اوباما برغم تجنيد شعاره المنتصر كان هذا الاسبوع، مثل اسرائيل، عدوا مشتركا لمعارضي النظام وأنصاره. "ما الذي فعله في رئاسته؟"، يشكو ياسر وهو طبيب اسنان. "خطب خطبة جيدة في القاهرة لا غير. لم يُغير أي سياسة. وما زال يمنح مبارك تأييدا كاملا. وبعد قليل سيعود الجمهوريون الى الحكم".             "المعذرة" أقاطعه في كلامه، "قال اوباما خاصة لمبارك كلاما واضحا جدا".             "سيجد الامريكيون بديلا عن مبارك يلائمهم"، يُصر. "ليس الشعب هو الذي يعنيهم بل مصالحهم".             يقول حسن ايضا من الجانب الثاني لخريطة الميدان كلاما مشابها. "لا يقولن لنا اوباما ما نفعل"، يقول في جزم. "ليس هو الذي يقرر من اجلنا ما نفعل. يجب ان نعطي مبارك فرصة أخيرة لتحقيق الوعود".             "ألا تبالغون قليلا عندما تُسمون مبارك ديكتاتورا؟"، اسأل عمر، وهو وكيل تأمين في منتصف الثلاثينات من عمره. "ليس هو بعد كل شيء الأسد ولا القذافي ولا احمدي نجاد ولا هتلر بيقين".             "ضاق الناس هنا ذرعا بالعيش في دولة شرطة"، يوضح. "يقولون لك في كل لحظة انه لا يجوز فعل امور لان الدولة تعمل تحت أوامر طواريء. لا يمكن العيش هكذا. أحد اصدقائي مثلا صاغ موضوعا للقب الثاني في جامعة القاهرة. أبلغته ادارة القسم انه يجب عليه ان يفحص ألا يكون شخص ما قد عمل في الموضوع هذا في جامعة اخرى. لا بأس، لكن لانه لا توجد أي شبكة محوسبة، كان يجب عليه ان ينتقل في رحلة مرهقة من جامعة الى اخرى للحصول على الاجوبة". ويتابع عمر قائلا: "مضى ذلك الشاب نفسه الى مركز شرطة لاستصدار بطاقة حسن سلوك واستل رجال الشرطة له مباشرة وثيقة عن انه كان مشاركا قبل عشر سنين بحادث طرق. تعرف الشرطة عنك كل شيء في هذه الدولة. فالناس لا يريدون هذا أكثر؟".             كان الجو خانقا هذا الاسبوع في القاهرة. اولا بسبب الهواء الكثيف المشبع بالدخان من مباني السلطة ومحطات الشرطة ومراكز الشراء التي تم احراقها ومن بقايا القنابل الغازية التي أطلقها رجال الشرطة على المتظاهرين. وبعد ذلك بسبب الجماهير المحتجين وبسبب الكراهية المتقدة التي نزّت من مظاهراتهم. وفي النهاية بسبب الشعور بالعنف الذي أخذ يسيطر على مجتمع ممزق مليء بالمخاوف والآمال.