"وثائق فلسطين"، التي نشرت هذا الاسبوع ستستخدم من الان فصاعدا نقطة انطلاق لتحديد الموقف من كل مفاوضات مستقبلية بين اسرائيل والفلسطينيين. الارشيف الدبلوماسي الذي كشفته قناة "الجزيرة" وصحيفة "الغارديان" البريطانية يوثق المحادثات التي ادارتها حكومة كديما مع السلطة الفلسطينية وتكشف بالتفصيل المواقف التي عرضها الطرفان في المفاوضات التي انقطعت بسبب حملة "رصاص مصبوب" وتبادل السلطة في القدس. حتى اليوم لم ينشر تقرير موثق كهذا عن الغرف المغلقة للمسيرة السياسية، مع محاضر كاملة لتبادل الحديث. كما أن الكشف الحالي جزئي: ليس فيه اقتباسات مباشرة من محادثات رئيس الوزراء السابق، ايهود اولمرت، مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ولا من اللقاءات غير الرسمية بين سياسيين ورجال أمن اسرائيليين ونظرائهم الفلسطينيين. ولكن يكفي ما نشر للحصول على صورة أغنى من أي وقت مضى عن المحاولات للوصول الى حل النزاع. الوثائق تدل على أن المفاوضات التي دارت بعد مؤتمر انابوليس كانت جذرية ومفصلة، وتضمنت عشرات اللقاءات، التي بحث فيها الطرفان تقسيم البلاد الى دولتين والعلاقات التي سادت بينهما. ليس فيها مكتشفات صاخبة عن تنازلات اسرائيلية: المواقف التي عرضها اولمرت وتسيبي لفني كانت معروفة في الزمن الحقيقي للجمهور الاسرائيلي، والخريطة التي عرضها اولمرت على عباس نشرت قبل نحو سنة في "هآرتس". كما أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو امتنع عن مناكفة سلفه على الاقتراحات للفلسطينيين، ربما لانه لا يريد أن يقيد نفسه. المفاوضون الفلسطينيون علقوا هذا الاسبوع في حرج بسبب الفارق الذي ظهر بين مواقفهم العلنية والمتصلبة، ولا سيما بالنسبة للقدس واللاجئين، وبين العروض الاكثر مرونة التي قدموها في المفاوضات. وأكدت الوثائق الجدال الدائم بين اليسار واليمين في اسرائيل الذي تمحور حول مسألة الى ماذا ننصت – الى اقوال السياسيين العرب التي يقولونها داخل الغرف ام تصريحاتهم في الخارج. متى يقولون الحقيقة، حين يقترحون بان يعود قلة من اللاجئين فقط الى اسرائيل ام عندما يعلنون بانهم لن يتنازلوا ابدا عن حق العودة؟ يوسي بيلين يؤمن فقط بالاعتدال داخل الغرفة المغلقة، وبيني بيغن فقط للحماسة امام الكاميرات. الكشف هذا الاسبوع لا يحسم هذا الجدال. الوثائق لا تؤكد ادعاء اولمرت وكأننا "كنا قريبين جدا من الاتفاق". بالعكس: فهي تفيد بانه رغم جدية المفاوضين والمرافقة الملاصقة التي تلقوها من وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس بقيت الفوارق كبيرة جدا وكان الاحتمال للاتفاق طفيفا. لا خلاف في أن اولمرت عرض على عباس في 16 ايلول 2008، في لقائه معه في منزل رئيس الوزراء في القدس، اقتراحه للحدود المستقبلية بين اسرائيل وفلسطين. اولمرت قال لعباس ان وقع على الخريطة وعندها يمكنه ان يقبلها. الزعيم الفلسطيني رفض والاثنان لم يلتقيا بعد ذلك. ولكن عباس لم يتجاهل خريطة اولمرت. بعد تسعة ايام من اللقاء في القدس، زار الرئيس الفلسطيني الرئيس جورج بوش في البيت الابيض. وحسب سجل جزئي للحديث انكشف هذا الاسبوع قال له بوش: "لا يمكن تحقيق اتفاق مع اولمرت. واصلوا المحاولة، ولكن لا تتوقعوا شيئا". في لقاء مع رايس بعد ذلك اشتكى عباس من ان الامريكيين يؤيدون الموقف الاسرائيلي. لماذا تستندون الى خريطة اولمرت وليس الى خريطتنا، قال لها. "مللت وعودكم"، قال عباس، وهدد على عادته بالاستقالة. في ذات اللقاء رفض عباس قبول اقتراح الجسر الامريكي، على ما يبدو لانه قدر بان بوش سيتبنى خريطة اولمرت وسيفرض عليه تسوية تقترب اكثر من الموقف الاسرائيلي. الوثائق تفيد بانه في ذات المرحلة بقيت الفوارق واسعة: الفلسطينيون اصروا على مطلبهم بان تخرج اسرائيل من ارئيل، معاليه ادوميم، افرات، جفعات زئيف وهار حوما. رايس لم تؤيد مؤقفهم وقالت لهم انه لن يتنازل أي زعيم اسرائيلي عن معاليه ادوميم، ويجب ايجاد حل يبقي ارئيل في اسرائيل. ولكن اولمرت لم يكتفِ برفض الاقتراح الفلسطيني. في وقت المفاوضات صادق على بناء مئات الشقق الجديدة في جفعات زئيف وفي هار حوما. رئيس الفريق الفلسطيني المفاوض، ابو علاء، عاد واشتكى امام لفني والامريكيين من توسيع المستوطنات: "هذا يقتلنا". ولكن الفلسطينيين لم يشترطوا المحادثات بوقف البناء مثلما يفعلون الان، حيال حكومة اولمرت. قائمة الفوارق في المواقف، التي بلورها الفريق الفلسطيني المفاوض في ايلول 2008 تعرض خلافات شديدة ليس فقط بالنسبة للمستوطنات والخريطة بل وايضا في مسائل اخرى. في القدس يطالب الفلسطينيون بسيادة كاملة على الحرم، بما في ذلك حائط المبكى؛ وهم مستعدون فقط لـ "سيطرة" اسرائيلية في "المبكى – 57 متر من الحائط الغربي". ويطالبون بتعويضات عن سنوات الاحتلال، الاستيطان وسلب المقدرات الطبيعية في المناطق. وهم يطالبون اسرائيل بتحمل مسؤولية خلق مشكلة اللاجئين وتواصلها، الامر الذي ترفضه اسرائيل بحزم. كما ان الفلسطينيين يرفضون رفضا باتا مطلب اسرائيل في ان يبقى الجيش الاسرائيلي في غور الاردن واخضاع المجال الجوي لفلسطين للرقابة الاسرائيلية. وهم مستعدون لان يستوعبوا في دولتهم عشرات الاف المستوطنين الذين يبقون في منازلهم – ولكن ليس لجندي اسرائيلي واحد. الاقتراح بان يبقى المستوطنون اقلية يهودية في فلسطين قد يكون المفاجأة الاكبر من كل مكتشفات هذا الاسبوع. يتبين ان الفلسطينيين لا يصرون على اخلاء كل المستوطنين، وفقط يريدون ان تنتقل السيادة على الارض الى ايديهم. لفني رفضت الفكرة رفضا باتا، ولكن نتنياهو يبحث عن حلول ابداعية توفر الحاجة الى اخلاء مستقبلي. وها هو مدخل لصفقة مثيرة للاهتمام. كشف "وثائق فلسطين" والانتقادات التي تعرض لها زعماء السلطة على "تنازلاتهم الواسعة" لاسرائيل، ستثقل عليهم اذا ما استؤنفت المفاوضات على التسوية الدائمة في أي وقت من الاوقات. ولكن رغم الحرج الذي لحق بخصمه عباس ليس لنتنياهو ما يدعوه الى الشماتة. فالخرائط التي نشرت ستستخدم "نقطة الصفر" للمحادثات المستقبلية، وهو لا يمكنه ان يشطب عن الطاولة اقتراحات اسلافه، بدعوى انها غير ملزمة في ظل انعدام الاتفاق.