منذ أن حُسمت المعارك بين الميلشيا المسلحة في غزة على حد الوصف الأخير المستغرب للرئيس عباس، وسيطرت حركة حماس على قطاع غزة وتشكيلها سلطة في غزة، ومنظمة التحرير في الضفة الغربية انقسم المقسم من فتات وبقايا الوطن وهو الأمر المضحك المبكي. إنفردت سلطة منظمة التحرير بالتغني بالشرعية، وأنا هنا لن اناقش تلك المسلمة، لرفض الحالة الجاثمة في غزة وعلى إعتبار أن مصيرها الفشل كما تجزم الشرعية، لكنني أفهم أن التغني ورفض الحالة القائمة في غزة يجب أن يقوم على برنامج واضح وآليات عمل لتنفيذ هذا البرنامج الذي طال إنتظاره من قبل المواطنين. في كثير من المناسبات تردد على لسان رئيس الحكومة الدكتور سلام فياض والرئيس عباس أن السلطة تخصص قرابة 56% من موازنتها لقطاع غزة كأحد آليات العمل وإثبات عدم تخلي الشرعية عن الشق المسلوب من الوطن. بإمعان النظر فيما تنفقه السلطة في غزة من رواتب لم يجرِ تعديلها وتحديثها أو ترقيات لموظفيها ووقف التوظيف من أبناء قطاع غزة منذ العام 2005، بعكس الحال في الضفة، وبعض النفقات الأخرى مثل العلاج في الخارج والمستهلكات الطبية والأدوية فانها لا تتجاوز 25% من الموازنة التشغيلية ومجموع ما ينفق من الموازنة التطويرية للسلطة في غزة هو صفر. بعد إعتماد موازنة السلطة الفلسطينية للعام 2010 التي قدرت بنحو 3.9 مليار دولار وخطة عمل الحكومة، قال وزير التخطيط والتنمية الادارية الدكتور علي الجرباوي أن الخطة حددت أربعة مبادئ توجيهية تم توظيفها لتحديد التدخلات الإستراتيجية ذات الأولوية في مشاريع الموازنات التي قدمتها الوزارات والهيئات غير الحكومية لسنة 2010 وهي: استكمال العمل على بناء جميع المؤسسات الحكومية وهيئات الحكم المحلي اللازمة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والعصرية، والارتقاء بمستوى تقديم الخدمات العامة لجميع المواطنين في كل تجمعاتهم السكنية، وإطلاق المشاريع الرئيسة لتشيد البنية التحتية التي تكتسب أهمية إستراتيجية في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران 67، إضافة إلى تعزيز موقف دولة فلسطين على الساحة الدولية، وتحسين صورتها والارتقاء بالدور الذي تضطلع به في تعزيز الاستقرار والازدهار في المنطقة. والسؤال المطروح برسم إجابة الوزير وحكومته بعد انقضاء العام 2010 أين غزة من المباديء التوجيهية الأربعة التي تحدثت عنها، فغزة بالكاد يصلها خدمات منقوصة من قبل ثلاث وزارات من أصل 19 وزارة وإجمالي ما أنفق في غزة من الموازنة العامة لم يتجاوز 400 مليون دولار من الموازنة التشغيلية على أحسن تقدير. البيانات التي صدرت عن الأحصاء الفلسطيني لأداء الاقتصاد الفلسطيني خلال العام 2010 ، تشير إلى تحسن في بعض القطاعات وذلك بسبب الأموال التي ضخت من المانحيين في موازنة السلطة، خصوصاً الإنشاءات والنشاط الصناعي وعدد النزلاء في القطاع الفندقي وانخفاض معدل البطالة في الضفة الغربية على عكس المؤشرات الخاصة بقطاع غزة التي تشير إلى تراجع التي يراد لها الفشل وأن تبقى حالة رواتب وتسول ونموذج الضفة هو الأمثل. هذا فيما يتعلق بالتنمية الغائبة وقطاع الخدمات المنقوص المقدم لسكان القطاع أما في مجالات أخرى فالكثير من سكان غزة يعتقدون أن قيادة السلطة لا تريد سماع إسمها بعد الانقلاب وأمل أكون مخطئاً في هذا الاستخلاص، لكن ما يعزز أعتقاد المليون ونصف المليون فلسطيني في غزة هو قلة المؤشرات الدالة على عكس ذلك من قبل السلطة في رام الله. أنه لمن المفهوم ومن الطبيعي أن تواجه السلطة في رام الله العديد من العقبات في توصيل الخدمات المختلفة لسكان القطاع في ظل استمرار الانقسام والحصار لكني أود هنا مناقشة ما جاء في تقارير إنجازات حكومة رام الله وأورد على سبيل المثال لا للحصر ما جاء في التقرير السنوي الأول تقرير أيار 2009-2010 التي غلب عليها طابع الجهوية والاستثناء لغزة حتى فيما يمكن إيصاله من خدمات. ففي بند الصحة أكتفت الوزارة بايراد فقرة في تقريرها تفيد باستمرار تقديم الخدمات الصحية لأهلنا في غزة ودفع فواتير الصيانة وشراء قطع الغيار. أما وزارة التربية والتعليم فقد عقدت 446 مخيماً صيفياً وانشاء 24 مدرسة جديدية وتوسعة 14 مدرسة قائمة وعقد عشرات الدورات للألاف من المشرفين والمعلمين. أما وزارة الحكم المحلي فقد إعتمدت 62 مليون دولار كموازنة لصندوق البلديات بزيادة قدرها 20 مليون عن السنة التي سبقتها وصرف 38 مليون دولار على مشاريع البنية التحتية للبلديات، كما بلغ عدد الموفدين الحكوميين في بعثات دراسية ودورات تدريبية 1988 موظفاً، واعتماد 8 هيكليات للوزارات المختلفة بلغ نصيب غزة من كل ما تقدم صفر, ولا تشير تقارير الحكومة اللاحقة إلى تغيير في هذه النسبة. ولعل أيضا ما ساهم في تعزيز هذا الأعتقاد لدى الغزيين هو موقف قيادة السلطة من تقرير غولدستون بعد عدوان الرصاص المصبوب الذي أخرج الملايين من البشر في عواصم العالم، منددين به في حين منعت المسيرات والمظاهر التضامنية في مدن الضفة الغربية وفق تعليمات صدرت للأجهزة الأمنية من قيادة الشرعية بضرورة إستخدام القوة والحزم. إن استمرار معاناة سكان القطاع اليومية ليس فقط من جراء الحصار وسياسات الإحتلال بل أيضا من إهمال سلطة الشرعية لمتطلباتهم وغياب تلك المعاناة عن خطابها للعالم الخارجي دفع بالغزيين للأعتقاد بأن مسؤولي سلطة رام الله يسمعون خبر غزة كخبر من ميكرونيزيا العظمى كما كان يطلق عليها الرئيس الراحل ياسر عرفات. أخيرا إن أكثر ما يحزن هو استمرار اختزال غزة في أرقام ونسب مئوية مالية غير دقيقة للتعبير عن مدى إلتزام حكومة وقيادة الشرعية بغزة متناسيين أن خلف كل رقم معاناة وسياقات حياة بشر أم أن الاستثناء المقصود لغزة وتدويل السلطة في رام الله يهدف أيضا للتقديم لمرحلة سياسية يراد لها أن تبرز نموذجاً ناجحاً في الضفة وبؤس في غزة يوصل إلى القبول بالحل المرحلي طويل المدى الذي قد يفرض بانسحاب أحادي الجانب من قبل إسرائيل من الضفة الغربية بعد اكتمال بناء الجدار، لكن يبدو أن قدر غزةأأ هو كما قال الشاعر: أحبولة الدين رثت من تعاملهم فاستخدموا بعدها أحبولة الوطن.