مع كل تصعيد عدواني جديد من قِبَل إسرائيل ضد الفلسطينيين، ترتفع صيحات التساؤل حول موقع العرب وتقصيرهم، وحتى تخاذلهم أمام ما يحدث للشقيق الفلسطيني.في هذا جزء من الحقيقة، وفيه أيضا جزء من المبالغة أو عدم الدقة في أفضل حال، لكن هناك ما هو أفضل من هذين التوصيفين، وهو ضرورة إدراك الفلسطينيين وقادتهم بالذات -نظرا لما يتحملونه من مسؤولية تجاه شعبهم المنكوب- أن الأمور تغيرت كثيرا عمَّا كانت عليه في النصف الأول من القرن الماضي عندما حل عليهم البلاء الصهيوني، وأن خطاب تلك الفترة لم يعد مفيدا بشكل كبير في عالم اليوم، وأن أدوات سياسة ذلك الزمن المشؤوم لم تعد عملة قوية في ظل تشابكات العالم الجديد وأفقه المفتوح على كل الاحتمالات التي في أغلبها ستكون على حساب القضية الفلسطينية إذا استمرت قياداتها في سوء الأداء الذي تتميز به في هذه المرحلة.فالعرب مهما بذلوا لا يمكنهم الحلول محل الفلسطيني في إدارة الصراع وتحرير الأرض وعودة شيء من الكرامة إذا كان استردادها كاملة أصبح صعبا وشبه مستحيل اليوم نتيجة تراكم الأخطاء والفرص الضائعة، والخلافات الجانبية، العربية منها والفلسطينية.على القادة الفلسطينيين أن يدركوا أن الشارع العربي الذي هو نصيرهم الأساس قد بدأت أمارات التعب تبدو عليه، وهو في ذلك معذور كل العذر. فالشعوب العربية، خاصة التي أوقعها حظها السيئ تحت حكم الأنظمة التي أطلقت على نفسها اسم التقدمية، قد عانت أنواعا من المعاناة تقترب من معاناة الشعب الفلسطيني. لقد حُكمت هذه الشعوب وعُذبت واستُنزفت مواردها وخضعت لكل أنواع أحكام الطوارئ تحت شعار تحرير فلسطين، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على الخارطة العربية، خاصة التي تقع خارج منطقة الخليج العربي لنشاهد مدى البؤس الذي وصلته هذه الشعوب تحت شعارات دعم القضية الفلسطينية التي اتخذ منها الحكام أداة لقهر شعوبهم وتمكين التخلف منها، وتشتيت شمل قواها الوطنية والديمقراطية بحجة ألا صوت يعلو على صوت المعركة الحاسمة التي لم تقع ولن تقع في أي وقت قريب، ولا في أي وقت بشكل مطلق بعد أن تغيرت الأزمنة والظروف والمعايير.ومع هذا لم تبخل الشعوب العربية بما هو فوق الإمكان من دون جميل وانتظار للجزاء. وربما حان الوقت لأن يفهم قادة فلسطين من الاتجاهات كلها أن عليهم أيضا بالمقابل مسؤولية مزدوجة، أولا: تجاه شعبهم الفلسطيني، وذلك بالارتقاء بمستوى خلافاتهم التي نعرف أن معظمها شخصي وصهرها في شكل سياسي قابل للتطويع تحت مظلة مصالح الشعب الفلسطيني المحتل منه والقابل للاحتلال، وثانيا: عليهم أن يدركوا مسؤولياتهم تجاه بقية الشعوب العربية التي لم تبخل بما عندها، والتي مثلت الحامي الأول للقضية عربيا، فلو تركت قضية فلسطين للأنظمة التي تهدر صباح مساء باسم فلسطين لكان أغلب الفلسطينيين اليوم خارج أرضهم، هائمين على وجوههم يتلقون سياط هذه الأنظمة أسوة بشعوبها، أو يتنقلون بين المنافي البعيدة حيث يبتعد حلم الدولة الفلسطينية كل يوم.إن دورا أساسيا يُنتظر أن يلعبه الفلسطينيون، وبالأخص قادتهم، في التخفيف من المظالم التي يتعرض لها الشعب العربي المناصر الحقيقي لهم، وهو دور ربما لا يقل عن دورهم من أجل شعبهم في الداخل، وذلك باتباع سياسة جادة أساسها الاتفاق بينهم من أجل مصلحة شعبهم وتحصين استقلال قرارهم والتصرف المسؤول فيما يصلهم من معونات ومساعدات يقتطعها العرب الذين تم إفقارهم باسم فلسطين من أفواه أطفالهم على حساب حاجات ضرورية يفتقدونها كما يفتقدها إخوانهم في فلسطين.على هؤلاء القادة أن يدركوا أن المواطن العربي له أيضا أولويات، عليه أن يتدبر أمور أطفاله وتلبية مطالب الحياة التي تزداد صعوبة كل مرة، وأن الوقت والجهد اللذين يستطيع أن يمنحهما لفلسطين يزدادان تواضعا مع الأيام نتيجة هذه الظروف وغيرها مما لا يصعب تصوره.لقد درج الخطاب العربي التقليدي الموارب على أن يؤجل التنمية ومطامح التقدم ويحرم شعوبه من ممارسة الحياة الكريمة بحجة أن كل ذلك مؤجَّل حتى تتحرر فلسطين، ولكن ربما يكون في عكس هذا الخطاب أيضا بعض الحقيقة، أي: أن تحرير العرب وإرادتهم قد يبدأ أيضا بتحمل القادة الفلسطينيين لمسؤولياتهم كاملة، بما في ذلك الكف عن منح الشرعية المقدسة التي تشتمل عليها القضية الفلسطينية لأنظمة دكتاتورية فسادها في ازدياد كل يوم، وبذلك يقدمون خدمة جليلة للمواطن العربي الذي كان حاضرا دوما لنصرتهم في أصعب الظروف