خبر : أبو مازن والانسحاب الهادىء من الحياة السياسية .. بقلم: احمد بدوي

الأربعاء 29 ديسمبر 2010 06:30 م / بتوقيت القدس +2GMT
أبو مازن والانسحاب الهادىء من الحياة السياسية .. بقلم: احمد بدوي



منذ أن تولى الرئيس محمود عباس قيادة السلطة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلفاً للزعيم الراحل ياسر عرفات أدرك تماماً صعوبة التوصل الى اتفاق سياسي مع الجانب الاسرائيلي يضع حداً للصراع  ضمن صفقة سياسية وتاريخية. كان الرئيس عباس المفاوض الأساس قبل رحيل عرفات، وخاض كل الجولات واللقاءات المصيرية مع الجانب الاسرائيلي والادراة الامريكية بما فيها كامب ديفيد التي بذل خلالها الرئيس الامريكي بيل كلينتون جهداً مضنياً كي يحصل على جائزة نوبل للسلام اذا ما وقع الطرفان اتفاقاً على قضايا الوضع النهائي. إلا ان ما طرح على الرئيسين الراحل والحالي لم يرق الى مستوى تطلعات الشعب الفلسطيني، وتم رفضه من قبل القيادة الفلسطينية وعلى رأسها ابو عمار الذي تمت محاصرته في المقاطعة، حتى انتقل الى جوار ربه. لا أود الدخول في اجراء مقارنة بين عرفات وعباس فالرجلان توليا ادارة الشأن الفلسطيني في سياقات ومناخات وتحالفات وبنية داخلية مختلفة، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى المقارنات تفقد الموضوع جوهره. لكن الرئيس عباس الذي ورث الوضع الفلسطيني بكل تعقيداته أعلن منذ البداية تبنيه المفاوضات كخيار استراتيجي وحيد للوصول الى اتفاق سياسي مع الجانب الاسرائيلي وروج له في عدد من المواقف والمحطات والتصريحات التي نبذ خلالها العنف، محملاً انتفاضة الأقصى النتائج السلبية التي وصل اليها الشعب الفلسطيني. هذه الرؤية بدت وكأنها خيار لرئيس دولة اسكندنافية، فالمنظمة التي قادها عرفات للحفاظ على القرار الوطني المستقل ودافع عنه والسلطة التي يشويها الفساد، وفقدت ثقة المانحين والشعب وانخرط بعض اقطابها ومؤسساتها في انتفاضة الاقصى واتهمت بالإرهاب، بل اكثر من ذلك أن بنية السلطة وأجهزتها الأمنية إرهابية، ما شكل تحدياً استراتيجياً أمام عباس. فالراحل أراد انتفاضة بغير أدواته أي بادوات أوسلو التي هي استثمارات غربية للدول المانحة وأراد أن يحافظ على القرار الوطني المستقل فهذه المتناقضة لا يمكن لها أن تستمر وتعيش وأن تكون طرفاً في أية مفاوضات مستقبلية، لذا سارع الاسرائيليون والأمريكان الى إعلان عرفات غير ذي صلة فور رفضه ما طرح عليه في كامب دبفيد. هذه المقاربة كان ولا يزال على الرئيس صاحب الرؤية الجديدة أن يخرج منها، من خلال إعادة بناء سلطة أوسلو وفق رؤية المجتمع الدولي، كي تحظى بثقته ومحاربة الفساد لكسب ثقة الشعب، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني المتمثل في المنظمة والسلطة. هذا قد يفسر إصرار عباس على تنظيم الانتخابات التشريعية كمدخل لإصلاح النظام السياسي، على رغم كل التحذيرات والتقديرات، ورفض عدد من أقطاب "فتح" اجرائها. وجاءت الرياح بما لا تشتهي السفن وفازت حركة "حماس" بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، ما أهلها لتشكيل الحكومة المحاصرة والمقاطعة دولياً ولا تحظى بقبول الدول المانحة لأسباب عقائدية وسياسية، ودخلت الحركتان في مناكفات ومواجهات دامية آلت الى انقلاب الحركة على نفسها، وإقالة حكومة اسماعيل هنية،  وكلف الرئيس مهمة تشكيل حكومة جديدة في رام الله الى سلام فياض الذي يحظى بثقة الممولين، وهي الخطوة الاولى تجاه تدويل السلطة وإعادة بنائها بالشكل والمضمون الذي يود المانحون رؤيته. الحكومة الجديدة  أعدت  خطة التنمية والاصلاح وعرضها على المانحيين في مؤتمر باريس، وشرم الشيخ وأوكلت إعادة بناء قطاعات السلطة الى مجموعات عمل ترأسها إحدى الدول المانحة، فقطاع الامن على سبيل المثال  أوكل للأمريكان بقيادة الجنرال دايتون، وكذلك القضاء والتعليم والصحة والبنية التحتية والرفاه الاجتماعي والقطاع الخاص. ففي القطاع الأول تم اعتماد برنامج التقاعد المبكر للضباط الذين يشكلون عائقاً أمام التنسيق الأمني بوصفة وظيفة وليس عقيدة قائمة على التبادلية والندية مع الطرف الاسرائيلي، وبذلك تم ترشيد وترشيق الأجهزة الأمنية بحيث تصبح فاعلة في ضبط الأمن ومكافحة "الارهاب" وتم إفراغها من العناصر والعقيدة التي قد تشكل عائقاً أمام المفاوضات في تماهي مع مطلب المانحيين. بموازاة ذلك كان لا بد من كسب ثقة الشعب الفلسطيني بالحكومة الجديدة، الأمر الذي يقتضي استمرار دفع الرواتب للمستنكفين في قطاع غزة والنفقات التشغيلية والجارية للوزارات المختلفة، ودفع عجلة الاقتصاد في الضفة الغربية وإزالة عدد من الحواجز الادارية والعسكرية في الضفة التي من شأنها إعاقة نمو الاقتصاد، وتكفل المانحون بالضغط أو التفاهم مع اسرائيل على ذلك، ما أدى الى مؤشرات نمو غير حقيقية لاقتصاد الضفة، ولم يسجل الانتعاش الوهمي أي تحسن يُذكر في هذا السياق. ولكي يتم تدويل المسار السياسي أو التفاوضي للحصول على الدولة، كان لا بد من تدويل مؤسساتها، فتم إعداد خطة بناء مؤسسات الدولة حتى نهاية العام 2012،  وتعاقدت السلطة مع الدول المانحة على بناء كل القطاعات. وبهذا تكون السلطة أو المانحين بنوا السقف دون تشييد المبنى ، أي دون سيادة أو اتفاق سياسي يحظى بالاعتراف الذي يمكن السلطة أو الدولة العتيدة من الدخول في تعاقدات دولية ذي طابع سيادي، وبهذا يكون لدينا بناءً وهمياً يحظى، ليس بالقبول فقط، ولكن بضمانات المانحين في استمرار دعمه وثني اسرائيل من معاودة تدميرة كما حصل لسلطة عرفات فهو بناء مملوك للمانحيين، فمهما ابتعدت اسرائيل عن اتفاق اوسلو أو اعتبرته ميتاً، فنتائجه حية ولها من يدافع عنها، فالسلطة عبارة عن مؤسسات مساهمة للمانحين. أما التحدي الآخر الذي يواجه رؤية الرئيس التفاوضية المتمثل في البنية الداخلية،  فغزة انقلبت وأعلن عنها الاحتلال كياناً معادياً، ولا يطالب الرئيس بالايفاء بالتزامته وفق خارطة الطريق في غزة التي لا يحكمها. لكن إصلاح المنظمة يبدأ من خلال اصلاح وإحداث تغيير بنيوي في الحركة الرئيس للمنظمة وهي "فتح" وعقيدتها المتبنية للقرار الوطني المستقل، فالمسلك الأول المتمثل ببناء مؤسسات الدولة يتناقض مع  قوة الحزب المتمثل في "فتح"، فإما الانتصار للدولة ومؤسساتها أو الانتصار للتنظيم وكلاهما خطان لا يلتقيان. من هنا جاء اصراره مرة آخرى على عقد مؤتمر الحركة السادس، وهو أصر سابقاً على تنظيم انتخابات عامة في ظروف لا تخدم فوزها وخسرت فيها. ولم ترق نتائج انتخابات الحركة، وجاءت بشخوص وشركاء شكلوا في الماضي عقبة أمام تدويل السلطة وتدويل القضية لاحقاً، فهم لا يرون أن من المناسب أن يقود حكومة السلطة ووزارائها أُناس من خارج الحركة،  وهذا ما قد يفسر عدم استجابة الرئيس لمطالب الحركة في إجراء تغيير وزاري حتى الآن. لكن الاستجابة من عدمها وحدها غير كافية لإحداث تغيير بنيوي من شأنه الانتصار للدولة ومؤسساتها، خصوصاً أن نتائج الانتخابات التنظيمية لم تأتِ كما تشتهي سفنه، فاستدحدث المجلس الاستشاري الذي قد يضم كل الأعضاء الذين فقدوا شعبيتهم داخل الحركة ولم ينجحوا في انتخاباتها، وسيكون لهذا المجلس شأن في إضعاف المؤسسات التنظيمية الآخرى أو الاستغناء عنها كاللجنة المركزية التي شكلت عائقاً ومحرضاً في بعض الأحيان أثناء المفاوضات المباشرة وغير المباشرة. وأصدر الرئيس قراراً تم تعميمه على السفارات الفلسطينية في الخارج يمنعها من استقبال أي عضو لجنة مركزية إلا باذن منه، كما منعهم من تبوء مناصب وزارية في السلطة، وسحب عدداً من الامتيازات منهم، واتهم البعض بالتخطيط لانقلاب لاستبداله أو خلافته. وأي كان المرشح فهو لا يرغب أن يكون من التنظيم أو من أبنائه، فقد تم وصفه بأكثر الرؤساء العرب زهداً في السلطة، فكيف لا وهو الذي أعلن عدم نيته في الترشح لانتخابات رئاسية قادمة، فما الذي يقلقه إذن ممن سيخلفة من التنظيم أم من خارجه، فهو لم يعين نائباً له حتى اللحظة، إذن ما المقصود من استحداث المجلس الاستشاري وسحب الامتيازات من أعضاء اللجنة المركزية ومعاداة البعض منهم؟!. في غياب الاجابة على تلك التساؤلات  وفشل المفاوضات وارتطامها بالجدار والاستيطان، يبقى السؤال برسم إجابته: لماذا يتم تدويل السلطة وإحداث تغييرات بنيوية داخل حركة "فتح" كي تخدم مفاوضات فاشلة؟  إلا اذا كان من شأن تلك التغييرات التقديم لمرحلة سياسية جديدة لا يرغب أن يكون هو طرف في التوقيع عليها المتمثلة في الحل المؤقت طويل المدى الذي يعم خلاله السلام القتصادي وهو ما يتم العمل عليه حالياً، والأمن ومكافحة "الارهاب" وهو ما يعمل عليه الجنرال دايتون. فالراعي الامريكي للمفاوضات لا يرى امكانية إحراز تقدم فيها في ظل الحكومة الاسرائيلية الحالية واللاحقة فهو فشل في الضغط على نتنياهو من أجل تجميد الاستيطان مؤقتاً وليس تفكيكه. هذا الحل المؤقت الطويل المدى الذي يؤجل قضايا الوضع النهائي ويظهرة بمظهر المتمسك بالثوابت ولا يقابل مصير عرفات، ينسجم ايضاً من حيث الجوهر مع رؤية "حماس" المتمثلة في الهدنة طويلة المدى المخرج السياسي  الوحيد للمأزق التفاوضي مع مجتمع الجارة اسرائيل المنزاح لجهة اليمين الاستيطاني، وينسجم مع بقاء مؤسسات الدولة المستثمر فيها مالياً وسياسياً من قبل الادارة الأمريكية والأوروبيين وعواصم الاعتدال العربي، وسيتواصل الاعتراف بها من دول تدور في الفلك الأمريكي. إن إمعان النظر في الخيارات السبع التي طرحها الرئيس عقب فشل المفاوضات المباشرة التي لم يتم تحميله نتائج فشلها على غرار ما جرت عليه العادة من قبل الادارة الأمريكية يؤكد أن الرئيس خلص من تدويل السلطة، ويمهد لحل أو تفاهم مؤقت طويل المدى مع الحفاظ على الثوابت الفلسطينية من خلال تدويلها ونيل المزيد من الاعتراف الدولي بها، سواء بالشكل الثنائي من خلال اعتراف مزيد من الدول التي تدور في الفلك الامريكي،  أو من خلال مؤسسات الأمم المتحدة، وأولها سيكون خلال فبراير المقبل أمام مجلس الأمن، ومن ثم الجمعية العامة اذا ما فشلت المحاولة أمام المجلس. فكل الخيارات التي طرحها تعتمد على مدى الاستجابة معها من قبل المجتمع الدولي، وآخر تلك الخيارات هو حل السلطة، التي لا يمتلك قرار حلها، فالوصاية الدولية  المطروحة كأحد الخيارات تنسجم مع تدويل السلطة وقرار حل الآخيرة ليس قرار الرئيس بقدر ما هو رغبة منه في الاختفاء من المشهد السياسي بهدوء دون ملاقاة مصير الراحل عرفات