خبر : ويكيليكس.. إعلام منقوص!!.. هاني حبيب

الأحد 26 ديسمبر 2010 10:57 ص / بتوقيت القدس +2GMT
ويكيليكس.. إعلام منقوص!!.. هاني حبيب



عالم من زجاج، هذا ما أكدته الوثائق التي نشرها وما زال موقع "ويكيليكس" عالم من النميمة باسم الدبلوماسية، عالم عادت إليه بكل قوة "نظرية المؤامرة" لا لكي يفضحها ولكن ليؤكدها، عالم من زجاج قذفته الوثائق السرية المطوية لتطال من هيبته المحظورة، عالم بلا أسرار.. هذا هو ما فعله هذا الموقع في ظل الانفجار المعلوماتي الكبير الذي دشنه عصر "الإنترنت".الموقف من هذا الموقع ما زال محل خلاف كبير، بعض الدول اعتبرته أكبر من أن يكون مجرد تدخلاً في السياسة والدبلوماسية، بل تهديد للأمن القومي، بعض الصحف حاربته بلا هوادة، باعتباره يشكل تدخلاً في النظرية الصحافية، ويسد الأفق أمام إحدى أهم مبتكرات هذه النظرية، "الصحافة الاستقصائية" ويسحب من رصيد الصحافة الورقية وحتى الفضائية لصالح الصحافة الإلكترونية ويهددها بالفناء بعد الذبول!ويغيب عن هؤلاء عدة حقائق تتعلق بهذا الأمر، غابت وهي في حال من الصدمة حيث يغيب العقل والمنطق، إذ لا شك أن وثائق هذا الموقع قذفت بحجر كبير في حجر الساسة كما في حجر الصحافيين، ما أوقعهما في إرباك صادر القدرة على التحكيم، وتجاهل هؤلاء كيف وصلت هذه الوثائق إلى المتلقي في كل أرجاء الأرض، فأولاً، لم تصل هذه الوثائق إلى المتلقي من خلال الموقع المذكور مباشرة، بل إن الموقع، عرف حجمه وحجم إمكانيات أي موقع في ظل الانفجار المعلوماتي، وأوكل إلى عدة صحف ورقية نقل الوثائق إلى المتلقي، واعتمد عدة صحف ورقية لهذه المهمة، فاعتمد في أميركا مثلاً على "نيويورك تايمز"، وفي بريطانيا على صحيفة "الغارديان"، "الورقيتين" كافة الصحف ووكالات الأنباء، والفضائيات، والمواقع الإلكترونية على مستوى أربع أرباع الأرض، نقلت عن الصحف الورقية هذه، كل ما جادت به خزينة ويكيليكس من وثائق، هذا لا يقلل من شأن الموقع، لكنه بالمقابل، يمنح الصحافة الورقية بعضاً من تميزها الذي بات موضع شك في ظل انفجار المعلومات الإلكترونية، وعليه يجب أن تتراجع الدعوات المتسرعة بتشييعها إلى مثواها الأخير وحضور جنازتها!!أما عن أفول الصحافة الاستقصائية، فإن الغرابة أن هذا الرأي جاء من صحافيين وإعلاميين، اعتقدوا على خطأ كبير، أن الوثائق بحد ذاتها هي نهاية "الاستقصاء المعلوماتي" مع أنها برأيي ليست من الصحافة الاستقصائية في شيء، بل هي مجرد مادة خام، تتطلب استقصاء وتدقيق محتوماها، هي مفيدة بلا أدنى شك في منح الصحافي المستقصي، "تلميحاً" لخطته الاستقصائية، فكل وثيقة من هذه الوثائق، بحاجة إلى تمحيص وتدقيق، فرغم أن الوثيقة بحد ذاتها صحيحة، إلا أن محتواها، ليس بالضرورة صحيحاً ودقيقاً، وهذا يتعلق بالأسئلة الاستقصائية ذاتها: من هم طرفا الحديث، وظروف الحديث، ومصالح كل طرف، ومدى صدقيته، فالكثير من الوثائق نقلت انطباعات وأقوال لسفراء أو موظفين أو دبلوماسيين، وهؤلاء لهم آراؤهم الشخصية ناهيك عن مواقفهم ومصالحهم، وهذا بالضبط ما يتوجب على الصحافة الاستقصائية التحري عنه.وهناك جانب آخر لا بد من الإشارة إليه، يتعلق بالطابع الانتقائي لبث الوثائق، ولنأخذ مثلاً من موقع ويكيليكس نفسه، فقد اختار صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية كي يمنحها وثائق الموقع، ولم يختر "واشنطن بوست"، نظيرتها ومنافستها، لماذا؟ لأن الأولى، تتماثل مع صاحب الموقع في الموقف المعادي لتدخل الولايات المتحدة في العراق، بينما الثانية أيدت إدارة بوش في هذه الحرب، انتقى مؤسس الموقع، جوليان أسانج، جهة يرتاح ويلتقي معها ولم يختر غيرها لأسباب انتقائية تخصه، وهكذا أيضاً، فعلت معظم وربما كل وسائط الإعلام التي نشرت وثائق وتجاهلت أخرى، بناء على سياستها ومواقفها، وهذا أمر معروف في عالم الصحافة، حتى الحرة منها، وهذا يعيدنا إلى ما اشرنا إليه حول الصحافة الاستقصائية، باعتبارها هي التي تؤكد أو تنفي صحة الانطباعات والمقولات والإشارات التي تناولتها الوثائق، لأن وراء كل نشر، موقفاً يتعلق بسياسة النشر التي تختلف بالتأكيد من واسطة إعلامية إلى أخرى.ولتأكيد وجهة نظرنا، ومرة أخرى بالعودة إلى اختيار الموقع لصحيفة "نيويورك تايمز"، فإن هذه الصحيفة، كما أشارت في إحدى افتتاحياتها، قامت لدى نشرها بعض الوثائق، بحذف الأسماء، واستشارت "البنتاغون" حول نشر وثائق أخرى، وامتنعت عن نشر وثائق بالكامل، وأهم من ذلك كله فإنها لم تضع نفسها كمدافع عن جوليان أسانج، عندما طالبت الولايات المتحدة بريطانيا بتسليمه لها!ولعل أهم نتائج ثورة ويكيليكس المعلوماتية، إحياء ضرورة مبدأ حرية تداول ونشر المعلومات والوصول إليها وتوفير مصادرها، ففي غياب خزينة الأسرار، ليس هناك من داع لحجب الأسرار والمعلومات، خاصة تلك التي يجب أن تتوفر للمتلقي المواطن، خاصة في ظل المفهوم الواسع جداً للأمن القومي الذي تتخذه معظم الدول مبرراً للحد من حرية الحصول ونشر المعلومات، وهو أمر شائع لدى كافة الدول، ولو بمقاييس نسبية، من الدول الديمقراطية إلى الدول الشمولية، كلها سواء في اتخاذ هذا المبرر للحجز على مصادر المعلومات ومحاسبة من ينشرها بمبرر الأمن القومي الفضفاض!وبعض الإعلاميين، اعتبر موقع ويكيليكس، بداية لتفجر صحافة المعلومات Data Journalism وهو خطأ كبير، إذ إن مثل هذا الشكل من الأشكال الصحافية، كان موجوداً منذ بداية النظريات الصحافية، وتحول الصحافة من هواية إلى علم، حيث اعتمد العمل الصحافي، منذ بداياته على المعلومات، غير أن هذا الأمر تطور مع الزمن، وإذا ما تحدثنا عن العمل الصحافي التوثيقي، فلدينا على المستوى العربي أحد أهم الأمثلة، وهو الصحافي الرائد الكبير محمد حسنين هيكل، الذي انتفع من قربه من مصادر القرار، خاصة لعلاقته الوطيدة مع جمال عبد الناصر، وجمعه لوثائق تاريخية مهمة تلقي الضوء على بعض من التاريخ، غير أن هذا الجمع ليس عملاً صحافياً بحتاً، إذ إن هيكل لم يجهد للحصول على الوثائق والمعلومات، مع أن الصحافي استثمر علاقاته لصالح الحصول على الوثائق والمعلومات، إلا أن العمل الرسمي لهيكل هو الذي مكّنه من الحصول عليها، وهي تتشابه في الكثير منها، مع بعض ما يمتلكه الساسة من وثائق ومعلومات بحكم منصبهم، وليس بحكم موقعهم الصحافي، وهذه الوثائق والمعلومات ينطبق عليها ما أشرنا إليه ونحن نعالج مسألة التحري والتدقيق بوثائق ويكيليكس، فهي مجرد مادة خام تفيد الصحافي الاستقصائي للانطلاق في مهمته، وليست بالتأكيد حقيقة مؤكدة إلا بعد تدقيقها وتحريها، وهذا مناط بالصحافة الاستقصائية!www.hanihabib.net