خبر : فتح وحماس: سرياليةٌ ثلاثيةُ الأبعاد ...د. جهاد صالح

الإثنين 06 ديسمبر 2010 08:51 م / بتوقيت القدس +2GMT
فتح وحماس: سرياليةٌ ثلاثيةُ الأبعاد ...د. جهاد صالح



تأخذني الأحزان ونفثة وحسرتاه.. مذياع السيارة يتحدث عن اعتقالات في الضفة الغربية واستدعاءات في غزة، والكل يهدد ويتوعد بالانتقام من عناصر الطرف الآخر..!!وفي لحظة شرود كنت أتأمل فيها حالنا، إذ بالسائق يطلق صفير السيارة، فالتفت مستطلعاً الطريق وإذ بسيارة ميكروباص أمامنا تسير ببطء شديد وعلى زجاجها الخلفي عبارة لافتة للنظر "معلش يا وطن".تجاوز سائقي السيارة بسرعة، إلا أن العبارة "معلش يا وطن" ظلت تلاحقني طوال الليل.في طريق رحلتي اليومية من رفح إلى غزة أتملى وجوه الناس والطرقات، فأرى كل شيء باهت وحزين.. فالبحر الذي كنا نغوص في مياهه الناصعة كالكريستال تحول إلى كتلة زرقاء داكنة، تحاصرنا داخلها مياه الصرف الصحي التي تنتهي بكل سمومها ورائحتها الكريهة في أعماقه، وعلى جانب الطريق المحاذي للشاطئ تسرق أكياس القمامة المتناثرة - بشكل مقزز - روعة البحر، وتعمل على تدمير كل مشهد جميل على هذا الشريط الساحلي المميز للبحر الأبيض المتوسط.في ذات السياق، تأتي التهديدات الإسرائيلية بضرب غزة واستهداف الأقصى.. ومع ذلك، تبقى ألسنتنا مسلولة بالتشهير والتحريض كلٌّ منا على الآخر، واقع يستدعي دمعة حزينة وبعض الآهات: "معلش يا وطن".وصلت البيت والعبارة تتردد على شفتاي بلا انقطاع.. جمعني حديث طويل مع بعض الأصدقاء - في ذات الليلة - وكان ملخص السهرة "معلش يا وطن".. وأخذني اتصال هاتفي مع قيادي فتحاوي، كان يشكو من تزايد حملة الاستدعاءات والإهانات التي يتعرض لها بعض كوادر الحركة بدون سبب يذكر.. وأنا من جانبي أحدثه عن الاعتقالات الواسعة في الضفة الغربية، والتي طالت الجميع من حماس؛ قيادات طلابية وحركية وعلمائية.. وفي نهاية المحادثة، كان العتاب والتلاوم الذي لم أجد معه من كلمة تبلسم الجراح غير "معلش يا وطن".كم مرة تحدثنا عن المصالحة الوطنية واستبشرنا خيراً بحوارات دمشق، وشكرنا القاهرة أنها لم تغضب، بل قال الوزير عمر سليمان بكل أدب جم: "روحوا تفاهموا وبعدين تعالوا وقعوا في القاهرة، مفيش مشكلة".كنّا في الأول نقول بدنا ساعة في القاهرة، وإذ بحوارات دمشق تعيدنا إلى أجواء قيام الساعة!! جدل عقيم، واتهامات متبادلة، وعقبات نضعها في وجه بعضنا البعض، وبدلاً من أن تمنحنا حوارات دمشق أملاً باتجاه التوقيع في القاهرة، نجدنا نعود إلى نقطة الصفر، ومعلش اتحملنا يا وطن..!!اعتقال في نابلس لأحد المربيات الفاضلات تحت ذريعة أمنية واهية، يجعل غزة مغلقة في وجه كوادر فتح؛ لا قدوم ولا مغادرة.. حماس تقدم تفسيرها بفشل المستوى السياسي في رام الله بالعمل على إطلاق سراح الأخت تمام أبو السعود كبادرة حسن نية لتسهيل مهمة كوادر المجلس الثوري في السفر إلى الضفة الغربية لحضور المؤتمر أو قدوم روحي فتوح وعبدالله الإفرنجي إلى غزة بدعوى متابعة شأن المصالحة.. هذه الممارسات البغيضة في المناكفة السياسية "واحدة بواحدة" بين فتح وحماس لها ملصق واحد يمكن أن يعبر عنها "معلش يا وطن".ذكرى الانتفاضة وذكريات الأحداثتركت غزة في عام 1982 متجهاً إلى الولايات المتحدة للدراسة، كان مشهد غزة –آنذاك- يعج بصور العمال الشباب الذين تركوا مدارسهم من أجل كسب عيش كريم لعائلاتهم، وكانت حالة التدين دون المطلوب في مجتمع شرقي معروف بأنه محافظ، حيث أثرَّت أجواء العمل في إسرائيل على أخلاقيات جيل بكامله.. لقد فرضت علينا حالة الاحتلال والارتهان للعمل داخل المدن والمشافات اليهودية سلوكيات خاطئة لم يعهدها مجتمعنا الفلسطيني من قبل.غادرت غزة حزيناً على شبابها الضائع الذي تلاعب الاحتلال بقدره ومصيره.. وفي فبراير 1988 عدت إلى غزة، قادماً من الولايات المتحدة بهدف التدريس في الجامعة الإسلامية.. وصلت القطاع تقريباً مع صلاة العصر، فالرحلة من عمان إلى غزة مروراً بجسر الملك حسين (ألنبي) تستغرق من خمسة إلى ست ساعات في المتوسط.. بدأ السائق في إيصال الركاب كلٌّ إلى بيته، الأمر الذي سمح لي بمشاهدة عدة أحياء في غزة قبل أن أصل إلى أهلي في رفح.. شاهدت أطفالاً يملئون الشوارع، يكتبون الشعارات الوطنية على الجدران وآخرون يرجمون جنود الاحتلال بالحجارة، وكانتهتافاتهم وتكبيراتهم تملئني غبطة وتنعش الآذان.كان المشهد مثيراً لي، وظننت أنني أعيش حلماً من أحلام اليقظة على أرض كنت غادرتها بشكل مخالف قبل بضعة سنين.يا لروعة المشهد.. لقد حدث التمرد إذاً على المحتل في غزة، وجاء دور "عباداً لنا" لتحقيق الوعد الإلهي المأمول.عشت هذه الحالة في نشوة وسرور، وطربت على هذا التحول الكبير في الحالة الفلسطينية، وخاصة في هذا الجيل من أطفال الحجارة.كانت الانتفاضة ذات تجليات نورانية لصحوة جيل من صميم اليأس ليصنع عزّة عاشتها مدن الضفة الغربية وقطاع غزة.. في مشهد كهذا لا يمكنك أن تبتعد، يدفعك الواجب أن تكون في قلب الملحمة.كانت سنة عامرة أيامها بالأحداث قبل أن أغادر غزة مرة ثانية إلى الولايات المتحدة، عشتها بوجداني وقلمي وتنقلي الدائم من غزة إلى القدس، أحمل هموم المشهد وتبعاته الميدانية من هنا إلى هناك وبالعكس.ومع استمرار إغلاق الجامعة الإسلامية كان عليّ التفكير بالعودة إلى أمريكا لاستكمال دراسة الدكتوراه.. وفعلاً غادرت القطاع، ولكنّي كنت مشحوناً بطاقة هائلة من الرؤى والمعلومات والشعور بالمسئولية والإحساس بالواجب؛ واجب تحريك جاليتنا العربية والإسلامية لدعم أهلنا في الضفة الغربية والقطاع ونصرة قضيتنا الفلسطينية.انطلقنا بروح الانتفاضة، وعملنا بطاقة الجيل العظيم الذي شاهدناه، ونجحنا في فلسطنة الضمير العربي والإسلامي، وصارت ساحات النشاط الطلابي والمجتمعي على الساحة الأمريكية حكراً للعمل الإسلامي من أجل فلسطين.ما أريد الإشارة إليه في هذه العجالة، - وخلال السنة التي اندمجت فيها مع فعاليات الانتفاضة - أننا كنّا نجمع الجهد الوطني والإسلامي من خلال التنسيق وعبر الواجهة المتاحة آنذاك؛ "القيادة الوطنية الموحدة".. لقد تفاهمنا في الساحتين الوطنية والإسلامية وأدرنا خلافاتنا بأدب، وعالجنا حالة التنافس بأخلاقيات عالية، ومنحنا الانتفاضة ديناميكية الاستمرار، وبذلنا في سبيل ذلك كل الجهد، وسجلنا حالة فريدة من التميز والإبداع.استمرت روح التفاهم بين الأخوة في فتح وحماس طوال سنوات الانتفاضة من (88 – 94) حيث حظي كل فريق بمكانة متميزة وكسب شعبي في فضاءات النضال الفلسطيني، واستحق الجميع في فصائل العمل الوطني - وخاصة فتح وحماس - احترام جماهير الشارع الفلسطيني في الداخل والخارج.. وفعلاً، لم يفسد الود بيننا، وحافظنا على علاقة نضالية مستقرة رغم وجود اختلافات في الرأي حول إدارة المواجهة والصراع مع المحتل الغاصب.كم كنّا عقلاء، وكم كان الشباب حكماء.. أما اليوم، ورغم كهولة القيادات وشيبتها إلا أنها – في الحقيقة – تفتقد إلى الحكمة ويغيب عن الكثير من قراراتها الرشاد.من يُصدّق أننا - وبعد هذه المسيرة النضالية الطويلة - نصل إلى حالة من الانسداد والتوتر البغيض في العلاقة بين فتح وحماس، تجعلنا نراوح في أماكننا "نتلاسن ويلعن بعضنا بعضا".ما الذي يريد كلّ منّا من وراء إذلال الآخر وتهميشه وإذهاب هيبته؟لقد تربينا في أحضان الفكر الإسلامي بأن فلسطين لنا من البحر إلى النهر، وهي جزء من مشروعنا الحضاري، ورفضنا ما جاءت به أوسلو من تسويات وحلول، فقطاع غزة لم يكن على خريطة حساباتنا العقائدية والفكرية والسياسية أكثر من أنه  جزءٌ غالٍ من أرض الوطن، ولا يمكن أن يتقزم الوطن في غزة كما يريد بني صهيون.والضفة الغربية لم تكن ضمن رؤية فتح والسلطة بأنها المحشر والمنشر، بل هي الطريق إلى تحقيق حلم الدولة الفلسطينية؛ الحرة والمستقلة. إن المستوطنات – اليوم - تبتلع أرض الضفة الغربية بشكل متسارع يسابق فيه الصهاينة الزمن لقطع الطريق أمام أي  فرصة لدولة فلسطينية عليها، والقدس يتم تهويدها وتهويد أركان مقدساتها بأكثر من ثلاثمائة ألف مستوطن يزاحمون ساكنيها ويستولون على حواريها وبيوتها بقهر القوة وفرض سياسة الأمر الواقع.ونحن اليوم، وفي ظل انشغالنا بترسيم حدود الحزب أو الفصيل، كم تأتي القدس في دائرة أحاديثنا وهمومنا؟ كم راية ترتفع – اليوم - لفلسطين في شوارعنا التي تزحمها شعاراتنا وأعلامنا الحزبية، وكم غفوة سرقتنا – في غمرة ذلك - عن إحياء مناسباتنا الوطنية؟ وكم حشد فصائلي تُجيّش له الإمكانيات والطاقات لإظهار كلٌ منا بأنه يمتلك السواد الأعظم من الناس، ليهمس بعضهم: "لقد غدا ملك ابن أخيك – اليوم - عظيما".. في السابق، كنّا نقول عن الفصيل الفلاني أن أتباعه لا يملئون حافلة واحدة (باص)، واليوم يتدافع كلٌّ منهم لأخذ تصريح للقيام بفعاليته على أرض الكتيبة أو ملعب فلسطين!! ليفاخر بأنه بات اليوم يمتلك تلك الحمولة "ساحة الكتيبة"، فلا أحد بذلك أحسن من أحد.الكل اليوم همه الوحيد هو العمل على إظهار عظمة قدرته في يوم انطلاق حركته..!!مرت ذكرى وعد بلفور، وذكرى تقسيم فلسطين، وذكرى مجزرة رفح في عام 1956، وعشرات الذكريات الوطنية ولم ينهض لها أحد.. أما أيام انطلاقة كل فصيل فهي بمثابة يوم الفتح العظيم!! فيما القدس محتلة، والحديث اليومي عن تدابير إسرائيلية لتصديع جدران مقدساتها لا ينقطع، كما يجري - على قدم وساق - سد الطريق أمام تأهلها كعاصمة لدولتنا الفلسطينية المستقلة.لا شيء يُعيب أن نحتفل بمناسبة الانطلاقة، ولكن كلُّ شيء بقدر، حتى لا يعتب علينا الشهيد في قبره، والجريح في مقعده، والأسير في مرقده، والمرابط في قبوه، أو طاوي الحشى وهو يُلهي صغاره بطهي الحصى.. فكل التضحيات كانت من أجل فلسطين وليس لزيادة رصيد البطاقة الحزبية والكثرة الفصائلية.في ظل زحمة هذا التلاوم واستمرار العتب، ليس أمامنا إلا التسليم بالقول "معلش يا وطن"، يرحم عظام أجدادك الأولين، اتحملنا – يا وطن – وتجاوز عن تُرَّهاتنا."معلش يا وطن"، أكرر الاعتذار إليك، فكل عناويننا الوطنية أضحت – اليوم – حزبية بامتياز.!!ودمعة حزينة على هيك وطن. كاتب ومحلل سياسي