خبر : أنا متهم !! .. د. ناجى صادق شراب

الأحد 30 مايو 2010 03:11 م / بتوقيت القدس +2GMT
 أنا متهم !!  .. د. ناجى صادق شراب



                                 لقد جرت العادة أن يتهم ألأنسان على خلفية أفعال وتصرفات وأقوال تضر بمعيار المصلحة الوطنية العامة ، وتتعدد التهم وتتنوع ، ولعل أخطرها تهمة العمالة أو الخيانة بكل درجاتها وأشكالها لأنها تعرض مصلحة الدولة والمجتمع وأمنه للخطر الجسيم. هذا وتتدرج العقوبات بدرجة الضرر الذى تلحقه مثل هذه ألأفعال والتصرفات التى تخرج عن سياق الشرعية السياسية والقانونية وأيضا الشرعية القيمية الضابطة للسلوك الفردى . أما أن يتهم ألأنسان على خلفية رأى أو قول ، أو نقد لسياسة أو قرار ما ، فهذا لا يدخل فى دائرة الإتهام ، لأن حرية الرأى والقول مكفولة دستوريا ، وهى شكل من أشكال الحرية الفردية فى أطار المسؤولية العامة. فليس من حق أى أنسان ، وليس من باب الحرية والمسؤولية الفكرية أن يكيل ألأنسان بالتجريح أو السب أو التخوين أو التكفير ، فهذه أفعال غير مقببولة مجتمعيا.وهذه المقدمة قد تبدو مطلوبة وتتفق مع عنوان المقال اليوم ، ولها علاقة مباشرة بكاتب المقالة ، وتعكس موقفا شخصيا له ، لكنه فى الوقت ذاته تعكس موقفا وأطارا عاما لصفة التهمة التى باتت تلصق وبسهولة بأى أنسان فى ظل هذا ألأنقسام ليس فقط السياسى ، بل ألأنقسام الثقافى والقيمى والمجتمعى ، وهنا تكمن خطورة هذا ألأنقسام وتجذره فى البنية الفكرية للمجتمع ككل. لقد أمتهنت السياسة كعلم ومحاضر فى الجامعة. أعلم طلابى آليات البحث العلمى التى تتعامل مع الظواهر السياسية بحيادية وموضوعية بعيدا عن التقييمات الذاتية أو الحزبية الضيقة التى تفقد التحليل أهدافه ونتائجه ومصداقيته، وعملت كمحلل للشأن السياسى الفلسطينى على وجه الخصوص دون ان اقيد قلمى وأرائى وأفكارى وتحليلاتى بقيود تنظيمية أو ولاءات شخصية ضيقة ، وبعيدا عن التفكير فى الثمن السياسى الذى يمكن ان يحصل عليه من يزحف للسلطة وإغراءاتها ، لأن المنصب ألأكاديمى والعلمى الذى قد وصلت أليه اسمى وأرقى من المنصب السياسى الذى يزول بزوال من يمنحه.  ولذلك حررت نفسى منذ البداية من أى أنتماء وولاء تنظيمى ، ويبقى ألأنتماء للوطن والقضية كمعيار ومحدد لأى رأى أقوله أو أكتبه ، وليس معنى هذا أننى لست صاحب راى أو أتجاه أو فكر سياسى ، وهو ما أجسده من خلال ما أكتب من مقالات ودراسات حول الصراع العربى ألأسرائيلى ، وأهمية ألأسلوب والنهج الديموقراطى المؤسساتى ، واهمية ترسيخ الثقافة المدنية ولكن فى ألأطار الواسع لمنظومة القيم التى تحددها قيمنا الدينية والحضارية والتاريخية ، فحن نظل فيما نكتب ومهما كانت توجهاتنا ليبرالية ومنفتحة على الثقافات ألأخرى ننتمى لحضارة أنسانية ممتده فى التاريخ بفكرها وعطائها للأنسانية . ومن المفارقات السياسية السلبية التى ترتبت على ألأنقسام السياسى أن توجيه التهم قد أختزل فلسطينيا فى أطار هذا ألأنقسام وقالبه الضيق ، وبدلا من العمل على أنهائها والتصدى لها بمعرفة وتشخيص أسبابه نذهب بتعميقه من خلال القاء هذه التهم جزافا، فأنت متهم بلباسك وبلونه اخضر أم اصفر أم احمر أم غير ذلك من ألألوان الباهته، وأنت متهم بما تكتب وبما تنتقد ، ومتهم بالفضائية التى تخرج عليها ، فإذا كانت فضائية ألأقصى مثلا فأنت إذن متهم بالميل لحركة حماس ، وبالصحيفة التى تنشر لك لقاءات صحفية كصحيفة فلسطين ، وهو ما يحدث مع كاتب المقال ، فأنت قد بعت القضية الفلسطينية ، وأصبحت مؤيدا للحركة ، وعليه تحرم من أى منصب أو رضا يقع عليك .  ويتناسى الجميع ان تكون أستاذا ومحاضرا ورأيك مسموع ومصدق أبقى وأدوم من المنصب الذى لا يساوى شيئا أمام مصداقية ما تكتب وتقول . والغرابة فى هذا النمط من التفكير الرجعى أننى عندما أجرى لقاءا مع مصدر أعلامى أسرائيلى لا أتهم أننى قد اصبحت مؤيدا لأسرائيل ، أو عندما أكتب مادحا الرئيس ألأمريكى لا أتهم بأننى قد اصبحت متأمركا . هذا التوصيف للمثقف والكاتب وألأكاديمى قد يكون نتاجا لحالة ألأنقسام ولثقافة إما معى أو ضدى ، وهى ثنائية ممجوجة ومكروهة ، لأن المعيار فى مع أو ضد هو بالمسافة والموقف من القضية الوطنية ومن الوقوف على معاناة الشعب ، وحتى التنظيمات والقوى الفلسطينية معيار الوطنية هو فى إنهاء ألأنقسام والعمل على أزالة مظاهر ألأحتلال بكل مظاهره. إن دور الكاتب أن يتناول بالتشخيص أسباب ما وصلنا اليه من تراجع ، وعندما أقوم بنقد تجربة السلطة فى سنواتها الأولى ، ,أقول أن ما وصلت أليه حالنا سببه فشلنا فى بناء مؤسسات حقيقية قوية ، فهذا لا يعنى المساس بأى شخص ، وحتى عندما أنتقد موقفا سياسيا للرئيس فهذا لايعنى أى أنتقاص أو مساس به ، وعندما نهاجم ونتصدى لكل أشكل الفساد فهذا أيضا محاربة لظاهرة قائمة برموزها، أما أن يصنف ويوضع الكاتب فى قوالب من التحزب والتعصب الفكرى ، ومقابل أثمان سياسية بخيسة ، فهذا هو ألأتهام الحقيقى الذى ينبغى أن يوجه لأصحابه . وهذه التجربة هى التى قابلتها فى ألآونة ألأخيرة ، وكلما قابلت أناس أو من نفس زملاء المهنة قالوا لى أن متهم بالميل لحركة حماس ، ولماذا لأن صورتك قد ظهرت مثلا فى جريدة فلسطين التابعة للحركة ، وبالتالى أنت محروم من كذا وكذا ، ودائما أرد بان هذا النهج من التفكير التآمرى التخوينى والتشكيكى والتكفيرى هو الذى يقف وراء النكبة الحقيقة التى ما زالت مستمرة لأكثر من ستين عاما ، وستستمر أكثر إذا أستمر هذا النهج من التفكير . وهل الحديث عن الجوانب ألأيجابية والسلبية بات مصدرا للأتهام ، ويبدو أن هؤلاء وهم المتهمون أصلا يسمعون نصف الكلام ولا يسمعون أخره لأن آذانهم لم تتعود على سماع النقد ، وتعودت فقط على سماع مديح أنفسهم فقط . وأتذكر أنه قد طلب منى تقييما لحكومة حماس فى غزه ، وقمت بالتقييم أستنادا الى معايير فى ألأداء عالمية التطبيق ، ومن الطبيعى أن أذكر النواحى ألأيجابية ، وبعدها طلب من أن أوجه أو ان أشير للسلبيات ، وهى ظاهرة طبيعية حتى فى أكبر الحكومات فى العالم ، فالحكومة ألأمريكية لا تخلو من سلبيات ، وليس المهم من وجهة نظر من يتهم السلبيات ، بل المهم أنك قد مدحت وأشرت ألى أيجابيات وهذا هو المرفوض.فأنا لست بهلوانا سياسيا يجيد فن التملق والتقرب ، ولست ميكيافيلى الغاية والوسيلة ، ولست ممن يدرسون السياسة بلغة المصلحة ، ولكن بلغة العلم والقيم ، وإذا كانت هذه هى معايير التهم التى تلصق بنا : فالشعب الفلسطينى سيكون كله موضع إتهام ممن هم متهمون . وبدون التحرر من هذا الفكر ، ستـاخذنا عجلة الزمن الى الوراء دائما ،لندور حول أنفسنا ولا نرى غير ما تراه أعيننا بمقاييس المسافة وليس بقاييس الفكر والرؤية المتحررة من ثقافة التخوين وثقافة التكفير.  أكاديمى وكاتب عربى drnagish@gmail.com