أسئلة الحرب (16)..

الثلاثاء 19 مارس 2024 06:48 م / بتوقيت القدس +2GMT
أسئلة الحرب (16)..



كتب حسن خضر:

لا يقتصر إلصاق صفة الإبادة، بالحرب الدائرة الآن، على الفلسطينيين. فالصفة متداولة، على نطاق واسع، وشائعة في لغة الساسة، والمعلّقين، والمشتغلين بالقانون الدولي والإنساني، في العالم. ويمكن العثور في الكثير من الشائع والمُتداول عمّا يحلل ويؤوّل هذا كله، ولا يبخل عليه بالشواهد.

ومع ذلك، لا يبدو من قبيل المجازفة القول إن الكثير من أوجه التحليل والتأويل ينحصر في نطاق السياسة، ولغتها، حتى وإن استعان بإحالات تاريخية سريعة من وقت إلى آخر. وبهذا المعنى، وعلى الرغم من قيمته الاستهلاكية العالية، إلا أن السائد من تجليات التحليل والتأويل يظل مؤقتاً، وعاجزاً عن اكتشاف ما هو أبعد وأعقد. ولعل في هذا ما يفسّر لماذا تتأخر الآداب والفنون، الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، في التعليق على الحروب، من ناحية، ولماذا تبدو وكأنها تكهّنت بها، قبل وقوعها، من ناحية ثانية.
ومع هذا في الذهن، أتكلّم، اليوم، عن رواية للإسرائيلي يشاي ساريد بعنوان "المنتصرة" المنشورة قبل أربع سنوات، والتي تبدو وكأنها كُتبت للتعليق على هذه الحرب، أو لتكون وسيلة إيضاح لإلقاء بعض الضوء على جوانب مُعتمة فيها. أعني أن الحرب (مطلق حرب) لا تنحصر في الدوافع والأهداف العامة، بل وفي الحالة المعنوية، والأخلاقية، والقناعات الأيديولوجية للجنود الذين هم وقودها، أيضاً.
 يَقتل الجنود في الحرب ويُقتلون. وفي الحالتين، يستدعي فعل أن تَقتل، وأن تُقتل، ما يبرره ويحض عليه. فقتل إنسان آخر، باسم قضية ما (كائناً ما كانت) أو التضحية بالنفس في سبيلها، ليس شيئاً مشتركاً بين بني البشر، أو في جيناتهم الوراثية، بالضرورة.
ومع ذلك، (وفي هذه اللحظة نقترب من كلمة السر في رواية ساريد) بعض البشر قتلة بالفطرة، والحرب مجرّد ذريعة لا لممارسة فعل القتل وحسب، بل وممارسته بطريقة تضفي عليه القداسة، أيضاً. هذا النوع من بني البشر قليل العدد. لذا، تنحصر المهمة الرئيسة لفكرة تكوين الجيوش، والتدريب، والتعبئة المعنوية، في تحويل الجنود إلى أدوات صالحة للقتل، لا تعوزها الكفاءة، ولا تشكو من تأنيب الضمير.
وإذا حدث، وهذا ما يحدث، دائماً، أن أُصيب جنود، غير مؤهلين للقتل بالفطرة، بالصدمة، وأحياناً، بالجنون، فإن وظيفة المُعالج النفسي هي تقديم العون النفسي لتمكينهم من استعادة الصحة النفسية، والعودة إلى ميدان القتال، في زمن الحرب، أو تمكينهم من تطبيع حياتهم بعدها، وتمكينهم من الشفاء، أو التعايش عمّا ينجم عن فعل القتل من كوابيس قد تستمر العمر كله.
هذه هي البطانة الداخلية لرواية ساريد. وبما أننا نحتاج إلى أكثر من معالجة للرواية. فمن المفيد التقدّم في القراءة بطريقة متأنية. فلا بد من التذكير، هنا، بأن ساريد (مواليد 1965، وهو ابن يوسي ساريد، بالمناسبة) ينتمي إلى جيل لاحق لما سماه غيرشون شاكيد بالموجة الجديدة (أو جيل الدولة، وبرز فيه كتّاب كعاموس عوز، ويهوشواع، وأبيلفيلد).
وما يعنينا، هنا، أن جيل الدولة، قد ختم حياته الروائية بأعمال ملتبسة، بعدما صارت هوية الدولة العمالية السابقة ملتبسة، أيضاً، منذ صعود اليمين، وفقدان الجماعات الأشكنازية، ذات الجذور الثقافية والاجتماعية وثيقة الصلة بأوروبا الشرقية، لامتياز التفوّق الديموغرافي، وانقلاب الخارطة السياسية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الذي صنعت ملامحه الرئيسة.
صار الفاعل الروائي في رواية يهوشواع الأخيرة (عنوانها النفق) مهدداً بالخرف. وصار يهوذا، الرمز الأبدي للخائن، في ميراث العالم، مجازاً في رواية عاموس عوز الأخيرة (عنوانها يهوذا) ونجا أبيلفيد، الذي كانت الإسرائيلية مكوّناً هامشياً في هويته كيهودي من مشكلة التعامل مع واقع ملتبس، لم يشغله من قبل.
ولا وجود لهذا كله في عالم ساريد الروائي، فالالتباس هو القاعدة لا الاستثناء، وفي التعامل مع الواقع بهذه الطريقة ما يحرر الروائي من التعامل مع أسئلة للهوية من نوع: معنى أن تكون إسرائيلياً ويهودياً، وحارساً لتجربة فريدة اسمها الدولة. الأسئلة التي شغلت عوز ويهوشواع، وأصابتهما بالاكتئاب في أيامهما الأخيرة على الأرجح.
وهذا يعني وجود أسئلة من نوع آخر عن الحرب، بوصفها سمة دائمة من سمات الواقع، وعن الهولوكوست (الموضوع الذي تناوله ساريد في رواية سبقت "المنتصرة" بعنوان "وحش الذاكرة" من زاوية تعطيل الوحش لكل محاولة لإنشاء علاقة سوية بالواقع).
ولنلاحظ، هنا، أن في العملين ما يصلح ترجمة لمعالجات تنتمي إلى حقول مختلفة. فأسئلة الحرب وثيقة الصلة بقضايا ذات مكانة مركزية في علوم الاجتماع والسياسة في الأكاديميا الإسرائيلية عن العسكرة والمجتمع، وما طرأ على الخامة البشرية للجيش من تحوّلات، نذكر منها تحليل ياغيل ليفي لما دعاه بتراتبية الموت. هذا في "المنتصرة".
 أما في "وحش الذاكرة" فنستعيد كتاب أبراهام بورغ، "لننتصر على هتلر"، الذي عالج فيه العلاقة الإشكالية بالماضي في الحالة الإسرائيلية. كان بورغ، وهو ابن يوسف بورغ، مؤسس الحزب القومي الديني، رئيساً للكنيست، والوكالة اليهودية، في وقت مضى، وقد بلغت تحفظاته على سلوك الدولة والمجتمع الإسرائيليين حد إعلان التنازل عن هويته الإسرائيلية.
ومع هذا كله في الذهن، نقترب من "المنتصرة"، التي تقوم بدور الفاعل الرئيس فيها معالجة نفسية، أشكنازية، اسمها أبيغال. يستعين ساريد بعد عتبة العنوان، بعتبة ثانية هي جملة لبورخيس يقول فيها: "الخنجر يريد أن يقتل، يريد سفك الدم فجأة"، ويختم روايته بمشهد لأبيغال تطلب من أخصائي في الوشم، رسم صورة خنجر أسفل بطنها. وعمّا بين حدي الخنجر، الأوّل والثاني، لنا معالجة لاحقة. فاصل ونواصل.