رغم الحرب المكلفة والطويلة على غزة، وربما بسببها، يشهد الائتلاف الإسرائيلي الحاكم خلافات داخلية مرشحة للمزيد من التفاقم نتيجة اختلافات في الرؤى، والأهم بفعل عوامل وحسابات حزبية وشخصية.
حسابات “الأنا” طالما كانت مرضاً مزمناً يلازم السياسة والسياسيين في إسرائيل، لكنها باتت أشبه بالمرض العضال في السنوات الأخيرة، كما ينعكس في أداء رأس الهرم، “كبير السحرة” الإسرائيليين بنيامين نتنياهو، المتهم بالفساد والكذب وخلط الأوراق والاعتبارات العليا والفئوية، حتى في فترة حرب.
وهناك عوامل أخرى تؤجّج هذه الخلافات، التي تجلت بمقاطعة الوزيرين يوآف غالانت وبيني غانتس مؤتمراً صحفياً لنتنياهو، قبل يومين، وفي انتقادات وتلميحات وتسريبات “مسمومة”.
أول هذه العوامل تشكيل مجلس حرب ضمّ له مندوبين عن “الحزب الدولاني”، برئاسة بيني غانتس، الذي اشترط انضمامه المؤقّت للائتلاف بتشكيل مجلس حرب (كابينيت مصغّر لإدارة الحرب) يخلو من الوزيرين الشعبويين الغيبيين إيتمار بن غفير وباتسلئيل سموتريتش، اللذين شعرا بالإهانة، لكنهما لم يقدما على مغادرة الائتلاف، وبالتالي إسقاطه خلال الحرب، لكن ذلك أنتج حالة ضغط وتوتّر داخلي دائمة.
ظهرت هذه الحالة في آخر تجلياتها أمس، قبل أيام، عندما خضع نتنياهو لتهديدهما بتفكيك الحكومة بحال تدارس مجلس الحرب سؤال اليوم التالي للحرب، فتم شطب هذا البند من أجندة اجتماع المجلس الوزاري المصغر، ونقله لاجتماع المجلس الوزاري الموسّع، الذي سينظر بهذا السؤال في اجتماعه غداً الثلاثاء.
ماذا مع اليوم التالي
وهذا السؤال محطّ خلاف جوهري، من شأنه تصعيد التوتر الداخلي بين مكونات الائتلاف الحاكم، ونتنياهو بنفسه جزء لا يتجزأ من هذا الخلاف، فهو يرفض بمنهجية التباحث في سؤال اليوم التالي، رغم الضغوط الأمريكية والداخلية. يتناغم هذا الرفض لدى نتنياهو مع توجهاته المبدئية، فمنذ دخلَ حلبة السياسة كان منحازاً لعقيدة إدارة الصراع، ومنع تسويته، واعتبار الدولة الفلسطينية لجانب إسرائيل تهديداً عليها، وهذا يفسّر مساعيه المحمومة المثابرة لتكريس الانقسام الجيوسياسي بين قطاع غزة والضفة الغربية، منذ 2007، فهذا الانقسام منحه فرصة للمناورة والكذب والزعم أن الفلسطينيين غير مؤهلين لإدارة دولة مستقلة. وهذا الموقف، مع رؤية بن غفير وسموتريتش، والمستوطنين الساعين لإبادة فكرة تسوية الدولتين، رغم اختلاف اللهجات واللغة السياسية. يضاف لذلك سبب تكتيكي ضيّق، يرتبط برغبة نتنياهو باستبعاد يوم الحساب العظيم، فهو يدرك ما ينتظره بعدما أدخل إسرائيل في دوامة “الإصلاحات القضائية” التي أغرقتها بنزاعات داخلية، حتى جاءت ضربة “طوفان الأقصى”، في السابع من أكتوبر، وتباغت الإسرائيليين الذين ترى أغلبيتهم أن هذه النزاعات مكنت “حماس” من التجرؤ على إسرائيل ومباغتتها.
لكن الحساب أكبر من ذلك، فهو حتى الآن، ورغم 87 يوماً من الحرب على غزة، وتدمير بناها التحتية والفوقية، لم يحقق أهدافها العالية، ما يدفعه لمحاولة إطالتها استبعاداً ليوم مساءلة يحمّله فيه الإسرائيليون مسؤولية الفشل، في محاولة مسح عار السابع من أكتوبر أيضاً.
إن التباحث في اليوم التالي يعني وضع أهداف عملية أكثر للحرب، وتقصير أمدها، وهذا ما يخشاه نتنياهو، ويخشاه أقطاب ائتلافه الذين عرّفوا أنفسهم بـ “يمين صهيوني خاص”، واليوم يجدون أنفسهم فاشلين في التغلّب على “حماس”، وهي منظمة فلسطينية محاصرة، وليست دولة قوية.
يفاقم كل ذلك الشعور بالحرج والإرباك والمهانة لدى الوزراء، خاصة المتشددين جداً (المدان بعضهم بالإرهاب)، ما يدفعهم لمحاولة الانسحاب للأمام، وسط دعوات للمزيد من القصف العشوائي، كما طالبت الوزيرة الغيبية ستروك من “الصهيونية الدينية”، وللمزيد من الحصار والحرمان من الغذاء والماء والدواء، باعتبار أن كل الغزيين “إرهابيين”، ولا فرق بين عسكريين ومدنيين، كما يزعم مستشار الأمن القومي الأسبق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند، في الأيام الأخيرة.
هؤلاء الوزراء أنفسهم يقولون، منذ اليوم الأول، بالتلميح، ومن خلال أبواقهم السياسية والصحفية، إنه ينبغي مواصلة الحرب دون اكتراث لمصير المحتجزين ويتهربون من “صفقة تبادل” باعتبار أن المصلحة العليا للإسرائيليين أهم بكثير من مصالح إسرائيليين خاصة، وأن السواد الأعظم من المحتجزين من جمهور اليسار الصهيوني أنصار غانتس وأيزنكوت.
الخوف من الاستنزاف
في المقابل، يتطابق الوزيران غانتس وأيزنكوت، وهما قائدان سابقان للأركان، مع موقف جيش الاحتلال، الذي كان في بداية الحدث متماثلاً مع حكومة نتنياهو، مؤيداً لحرب شعواء لمسح عاره في السابع من أكتوبر، بعد اتهامه بالفشل الاستخباراتي الذريع، وبحماية المستوطنين في غلاف غزة، طيلة أيام احتلت فيها “حماس” بعض المستوطنات والقواعد العسكرية. لكن الجيش، في الفترة الأخيرة، بدا واضحاً أنه قد غيّر موقفه، فقد تعلّمَ على جلود ودماء جنوده بأن الحرب موجعة وصعبة وأهدافها عالية،
ويطالب، اليوم، أولاً بتحديد ملامح اليوم التالي (تصوّر سياسي)، وثانياً بالانتقال للمرحلة الثالثة، التي تعني عملياً وقف عملية التوغّل البرّي، التي تتخلّلها مخاطر المراوحة في المكان، والاستنزاف اليومي لقواته. يتجلى ذلك في تسريبات، وفي تحليلات محللين عسكريين ومراقبين في جيش الاحتياط، ممن يحذّرون، بصوت متصاعد في الأيام الأخيرة، من مخاطر التورّط في أوحال غزة، واستنساخ ورطة حرب لبنان الأولى، وعلى ما يبدو يندرج سحب خمسة ألوية له من القطاع مع هذه الرؤية.
ويتبنى هذا الموقف غانتس وأيزنكوت، مثلما يؤيدان صفقة تبادل الآن، وجعل استعادة المحتجزين هدفاً أعلى، وقبل تدمير “حماس”، حتى بثمن وقف الحرب من خلال الخطط المرحلية المذكورة، وهذا بخلاف موقف بقية الائتلاف الحاكم ورئيسه نتنياهو الذي باتت تتزايد الشكوك في الشارع الإسرائيلي بأنه يخلط الأوراق دون اكتراث للأثمان البشرية الباهظة، خدمة لغاياته الخاصة وحساباته السياسية.
وتجدر الإشارة إلى أن الحسابات السياسية الشخصية حاضرة لدى غانتس وغالانت أيضاً، فكافّتهم شركاء في المعركة على صورهم في وعي الإسرائيليين، وعيونهم جميعاً على الحلبة السياسية الداخلية، وهي على موعد مع أيام حساب ومع انتخابات مبكرة.
غانتس وحزبه غير معنيين بالبقاء في حكومة فاقدة للثقة، تدير حرباً مكلفة مفتوحة بلا أفق، ويخشون استخدامهم ورقة تين للتغطية على إخفاقات الحكومة، وبالتالي يخشون من تبعات ذلك على مستقبلهم الحزبي- السياسي. لذا، من هذه الناحية، فإن غانتس وصحبه أيضاً كنتنياهو، وكذلك غالانت، لا تخلو حسابتهم من الاعتبارات الشخصية والسياسية، ولذلك فإن غانتس بالأساس معني بخوض سؤال اليوم التالي كي يعلم متى يغادر صفوف هذه الحكومة، ويبلغ جمهوره الحزبي بذلك. لكن ليس غانتس وأيزنكوت فحسب المعنيين بصورة واضحة لليوم التالي للحرب، لأن الجيش يريد ذلك كي لا تطول الحرب المكلفة دون طائل.
زوج الزوجتين
ويجد نتنياهو نفسه عالقاً هنا أيضاً، فهو غير معني بتحديد معالم اليوم التالي لاعتبارات أيديولوجية وشخصية من جهة، ومن جهة أخرى معني ببقاء غانتس وأيزنكوت داخل الحكومة. بيد أن الاستطلاعات تظهر أن قوة حزب غانتس تصاعدت، وتجاوز قوة “الليكود”، وحسبها يتغلب على نتنياهو من ناحية الأهلية بترؤس الحكومة،
ولذا يحاول نتنياهو النيل من حليفه- غريمه غانتس بالتسريب والتلميح والاستعانة بالأبواق التابعة له في الصحافة العبرية التي انقضّت عليه لالتقاط صورة “فاضحة” له وهو يعانق ويقبّل فنانة إسرائيلية مشهورة، قبل أيام، باعتبار ذلك غير لائق في فترة حرب.
في ذات الوقت، يدرك نتنياهو أن انسحاب غانتس وأيزنكوت من الحكومة سيشعل الاحتجاجات مجدداً في االشارع الإسرائيلي، الذي يميل، حتى الآن، للصمت، ويتحاشى الاحتجاج على إخفاقات الحرب، وعلى انشغال حكومتهم بمسائل سياسية وشخصية، وعلى إهمال بقية المحتجزين داخل غزة، لكن مع مغادرة غانتس سيدرك معظم الإسرائيليين أن فترة الصبر انتهت، وأن الحكومة باتت فاقدة تماماً للشرعية وعليهم التخلص منهم، والآن. وهذا ما يدركه نتنياهو، ولذلك فهو يناور بين كل هذه التجاذبات والخلافات داخل ائتلافه، وكأن هناك حكومتين في إسرائيل، الأولى حكومة غانتس وأيزنكوت، والثانية حكومة بن غفير وسموتريتش، وهو يقف في الوسط بينهما، يتعرّض لضغوط متعاكسة تحوّله أحياناً لنكتة سوداء، أو رسم كاريكاتير، وهو يقول الشيء وما يلبث يتراجع عنه أو يفعل عكسه.
حكومتان في إسرائيل
إزاء الضغط الداخلي والخارجي اضطر نتنياهو للقول، في مؤتمره الصحفي الأخير، إن هيئة الأمن القومي قد تدارست سؤال اليوم التالي ثماني مرات، بعدما كان يشرح يومياً لماذا لا، زاعماً أن سؤال “ماذا بعد” يأتي فقط بعد بلوغ اليوم التالي فعلاً، بمعنى إسقاط “حماس”.
يقف نتنياهو بين حكومتين، لكل منهما أجندة سياسية واجتماعية مختلفة، ويبدو كزوج الزوجتين: كل حكومة تتصرف كأن ضرّتها غير موجودة، كما يقول المعلق الإسرائيلي ناحوم بارنياع، اليوم الإثنين. ويتابع، بلغة ساخرة: “يوجد هنا تعدّد للزوجية، ولكن حب لا يوجد”. موضحاً أن الحكومة الأولى بقيادة غانتس تصادق على القرارات والميزانيات كأنه لا يوجد شيء سوى الحرب، أما حكومة سموتريتش- بن غفير فتتصرف كأن الحرب غير موجودة، مشغولة بالسطو على الموازنة العامة خلال الحرب، وبتعيين موظفين كبار خلالها، ولاعتبارات فئوية، وبعكس الاتفاق مع غانتس، كما يتجلى بقيام بن غفير بعزل رئيسة مصلحة السجون الإسرائيلية.
يضاف لذلك ضغط خارجي أمريكي بالأساس، يريد من إسرائيل، منذ اليوم الأول، تحديد معالم اليوم التالي مسبقاً، فواشنطن معنية باستغلال الحرب التي دعمتها بكل السبل بشكل غير مسبوق لتصميم الشرق الأوسط من جديد، من خلال تسوية القضية الفلسطينية أولاً، وهذا ما ترفضه حكومة نتنياهو المصمّمة على إدارة الصراع فقط.
ويبدو أن وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، الذي يصل للبلاد غداً، في زيارة خامسة، لإقناع حكومة الاحتلال بذلك من منطلق أن الحرب طالت، وبسببها باتت الإدارة الأمريكية عارية في العالم، وحتى في الشارع الأمريكي، علاوة على الخوف من اشتعال حرب إقليمية تتورّط فيها أيضاً تمتد ساحاتها من اليمن للبنان، فضلاً عن الرغبة بالتفرّغ للانتخابات الرئاسية القريبة.
هل ينتقل بلينكن للضغط الفعاّل الحقيقي على إسرائيل، أم سيبقى مسافراً بين هنا وهناك، ولسان حاله كالأغنية الشعبية “بابوري رايح رايح”.. دون جدوى؟