أخيرا بعد مخاض عسير بدأت الهدنة. وفي أول أيامها الأربعة، تدفق العائدون إلى بيوتهم أفرادا وأسرا، مشيا أو راكبين على عربات الدواب أو على الدراجات الهوائية، وقليل منهم على الدراجات النارية التي لا يجد أكثر من يملكونها وقودا لتشغيلها. وما أكتبه يصف ما حدث في المنطقة التي أسكن فيها.
رأيت في الطريق الذي يشقها من الشرق إلى الغرب عصبة من الشبان وفي يدهم شيء، ولما اقتربت منهم قال أحدهم : ” خذ اقرأ ! “، وناولني مجموعة أوراق، وشعرت فورا أنها قد تكون منشورات إسرائيلية، وهو ما صح. وفيها تحذير للذين لجؤوا من الشمال بألا يعودوا إليه، فالحرب لم تنتهِ، ويحملهم الجيش الإسرائيلي المسئولية عن حياتهم وعن حياة أسرهم إن عادوا إليه.
وأسقطت المنشورات في مظلة صغيرة أنيقة حتى لا يفرقها الهواء في أماكن متباعدة، فلا يراها الذين وجهت إليهم. وفي هذا الأسلوب غباء وفير. من يعثر على مظلة سيكون غالبا شخصا واحدا أو أكثر قليلا، وحتما لن يوزعها على الناس. ومزقت ما وقع في يدي، ومزق الشبان ما كان في أيديهم، فاختفت كل منشورات المظلة. وزاد عدد حضور صلاة الجمعة في مسجد المنطقة زيادة كبيرة عما كان في الجمع السالفة لكثرة من عادوا إلىيها ممن بارحوها. وبعد الصلاة سرت شرقا. عزمت على زيارة قبر الزوجة الحبيبة. سار بي الطريق صاعدا. ذكريات بعيدة تتفجر في النفس.
في هذا الطريق كنت أطالع كتبي المدرسية ذهابا وإيابا ساعة أو ساعتين أو ما قاربهما، وأي دنيا بهجة وانفعال تجيش في القلب حين يبث بستان اللوز في الجانب القبلي من الطريق عبير نواره، وحين تنثر الريح بتلات ذلك النوار فوق الطريق بلونها الأبيض النقي أو المتورد بحمرة رقيقة تبعا لنوع الشجرة ! وما أقل المارة فيه في ذلك الزمان. بلغت نهايته، واتجهت جنوبا موازيا المقبرة من جانبها الشرقي. ومن طريق آخر ينحدر شرقا إلى وادٍ ظهر لى خط الهدنة أو الخط الزائل مثلما تسميه الأدبيات الغزية. انحدرت غربا. المقبرة، مقبرة الشهداء، في منخفض تتناثر فيه أشجار فتية.
رأيت في جنوبها الخالي من القبور حفرتين. هذا من فعل المدفعية الإسرائيلية التي لا تتوقف منذ بدء الحرب عن القصف العشوائي للمنطقة. قصف يعنف أحيانا عنفا جنونيا في كل أوقات اليوم. حييت الحبيبة بالسلام، وقرأت الفاتحة لروحها دامع العينين، وسألتها بشطر بيت في قصيدة سابقة عنها : ” أحقا غدا لك، هُدْبُ، ضريح ؟! “، وأنبأتها في بيت بزغ في اللحظة من غور نفسي : ” فقدتك في الحرب فقد الحبيب = لإلفٍ حنون ودود قريب “. في حرب 2014 أزالت جرافة إسرائيلية المقبرة، والقبور الحالية كلها لراحلين بعد تلك الحرب. عدونا الوضيع التافه يكرهنا أحياء وأمواتا.
ad
غادرت المكان مثقل القلب، واتجهت شمالا. بيوت على جانبي الطريق هدم القصف المدفعي العشوائي أكثرها هدما جزئيا يسهل إصلاحه بشيء من الترميم. أكثر المهدم على الجانب الشرقي لمواجهته لمصادر القصف الإسرائيلي مواجهة مكشوفة، ولوجوده في أماكن مرتفعة تنحدر شرقا إلى وادٍ ينعطف غربا بعد أقل من كيلومتر مكونا وادي السلقة ( الذئبة ” الشهير الذي يواصل مسيره نحو الغرب ليصب مياهه في البحر شتاء ؛ عابرا جنوبي دير البلح، ومجتازا قرية البِرْكة ذات النخيل والتين والعنب، وتضاءل عدد هذه الأشجار منذ سنين لانتشار البشر والحجر في المكان . في الجانب الغربي من الطريق بيتان لأسرة واحدة مهدمان تهديما كليا. قصفتهما طائرة منذ أسبوعين. انتهيت إلى طريق يتجه غربا ما لبث أن أوصلني إلى الطريق السلطاني. يقولون إنه كان طريق السلاطين والجيوش بين مصر والشام. يممت في اليوم الثاني دير البلح مشيا. ولحظت قلة الناس حول مدرسة الوكالة. عاد أكثر القريبين منها إلى بيوتهم، وبقي أهلنا وأحباؤنا من غزة وبلدات الشمال. تفاءلوا بأن تعيدهم الهدنة إلى أماكنهم على ما نابها من خراب إلا أن بنود الهدنة لم تنجز تفاؤلهم. المدينة تزدحم بهم سائرين وقاعدين ومجتمعين يتحدثون. بعضهم يرتفع صوته. البضائع الغذائية المعروضة على بسطات مؤقتة أو بسط قماشية أو بلاستيكية أكثرها مما جاء في المعونات الخارجية. باعها من هو في غنى عنها أو من هو في حاجة إلى ثمنها لشراء أشياء أخرى. باعة كبار وصغار من مختلف الأعمار تعرف فورا أن بعضهم جدد تماما. ونساء يبعن ما يتقن صنعه في البيت من مشتقات الحليب، وأقراص العجوة. ولنقص الخميرة الصناعية ظهرت خميرة صناعة منزلية. وفي مركز المدينة باعة حطب. فتقت حاجات الناس في الحرب قدراتهم على ابتكار وصناعة ما يواجهون بهم مشاق هذه الحاجات العسرات. إرادة الحياة تقاتل في بسالة عواصف الموت واليأس وتنتصر.سيكون شبنا أقوى في كل مناحي الحياة بعد هذه الحرب الرهيبة . غزة في حرب عالمية ثالثة، وعدوها يصطف معه كل شياطين الإنس من عجم ومن عرب. غزة معها رب السموات والأرض _ سبحانه وتعالى _ الذي سيأخذ ظالميها أخذ عزيز مقتدر. غزة تنتصر، وعدوها وأنصاره من شياطين الإنس ينكسرون ويندحرون وينقهرون. كل الأخبار والحقائق تبشر بهذا. دولة الخرافة والوهم والكذب والقتل في ساعاتها الأخيرة. المنطقة، بل العالم، لن يكون بعد السابع من أكتوبر، بعد طوفان الأقصى، نفس المنطقة ونفس العالم مثلما أن العالم ما بعد طوفان نوح _ عليه السلام _ لم يكن نفس العالم قبله، وسلام على غزة، وعلى شهداء غزة، وعلى أهل غزة، وعلى أبطال مقاومة غزة، وسلام على كل من وقف معها من شرفاء العرب والمسلمين والعالم كله، ورب هدنة صارت وقفا للحرب.
كاتب فلسطيني